الطفولة المُبكّرة ومعنى الحرية
Arab
4 hours ago
share

يقول الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو: "حرية الفرد لا تكمن فقط في أنه يستطيع أن يفعل ما يريد، بل في أنه يجب عليه ألا يفعل ما لا يريد"، ويعني ذلك أنّ للإنسان حرية الفعل والامتناع عن الفعل في الآن نفسه، وهذا من صميم روح حقوق الإنسان ومن منطوقها أيضًا. 

معنى حرية الاختيار وتطرّف الفهم والفعل

تنقسم الحريات إلى حريات عامة وحريات فردية. وما يهمنا في هذا السياق الحريات الفردية، خصوصاً حرية الاختيار. ففي مجتمعاتنا الشرقية تتقلّص قدرة الفرد على الاختيار بشكل يجعله متردّدًا دائمًا في اختياراته، ومتشكّكًا في ما اتخذه من قرارات، سواء كانت بسيطة إلى حدّ التفاهة أو مهمة ومصيرية. يُفسّر هذا الوضع بنمط التنشئة الاجتماعية السائد، الذي لم يتخلّص بعد من رواسب التقليدانية، التي تعتبر أنّ الحقّ في الاختيار واتخاذ القرار، يُعدّ حكرًا على الأفراد الراشدين، وخصوصًا الذكور.

 إنّ الملاحِظ لتحوّلات نمط التنشئة المغربي على سبيل المثال، سيرى أنّ أغلبية الأسر المغربية تتمسّك بممارسة سلطة مطلقة على أطفالها، متشبّثة بالنظام الأسري القديم، الذي يعتبر الأب مركز الأسرة وصاحب الاختيار والقرار. فلا مكان ضمن هذا النظام لاحترام اختيارات الأطفال، مهما كانت طفولية، ولو تعلّقت بقطعة بسكويت أو لعبة فقط. وما يغيب عن هؤلاء، أنّ الأجيال الصاعدة مختلفة تمامًا، ولا شك أنّ هذا الاختلاف يؤدي إلى صراع أجيال ينتهي في الأخير إلى ولادة ثقافة أسرية هجينة. في المقابل، هناك موقف آخر، يؤمن بحق الأطفال في الاختيار، لكن ترجمة هذا الموقف تحصل بشكل غير تربوي، حيث يُفتح باب الاختيار على مصراعيه، لأطفال لا علم لهم بقوانين الحياة، لا علم لهم بقانون النسبية الذي يطبع تلبية رغباتنا ومتطلباتنا اليومية، ولا علم لهم أيضًا بحجم المسؤولية عن كلّ اختيار في الحياة، بما يجعل هذا النموذج من الأطفال، سادة الأسر ومركز الاهتمام، إذ تنمي هذه المركزية شعورًا بالتفوّق والمكانة، وتزيد من الثقة العمياء في تحقيق كلّ الرغبات "رغبات الأمراء لا تُرفض". وينتهي هذا النموذج أيضًا إلى بروز ثقافة هجينة، تمامًا كالنموذج السابق، وهكذا تتأرجح ثقافة الاختيار واتخاذ القرار بين التردّد والتهوّر.

تتقلّص في مجتمعاتنا الشرقية قدرة الفرد على الاختيار بشكل يجعله متردّدًا دائمًا في اختياراته، ومتشكّكًا في ما اتخذه من قرارات

ترتبط هذه المفارقة بالجذور التاريخية لحقوق الإنسان بضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط... عصر الأنوار خلال القرنين الـ17 والـ18 في أوروبا الغربية، مقابل الصدمة الاستعمارية وفرض التحديث خلال القرن الـ20 في العالم العربي. خلّفت هذه الصدمة مجتمعًا متناقضًا يحاول الجمع بين بنيته الفكرية الموروثة وفكر الحداثة وحقوق الإنسان. لا تنفي هذه المفارقة المهيمنة اجتماعيًا، وجود فئة ثالثة، تؤمن بالاعتدال وتحاول التوفيق بين المقاربتين، متشبّثة بالهُويّة الشرقية ومحافظة على روح الذاكرة الجماعية، وفي الآن نفسه متشبّعة بروح فكر الأنوار ونزعة التحضّر الغربي.

تجارب بسيطة في سنّ مبكرة... بسكويت أم يوغورت؟

يُمكن القول إنّ تنشئة أطفالنا في أعمارهم المبكّرة (ما بين 3 و8 سنوات)، عملية سهلة ومتعبة، بسيطة ومعقّدة، في الآن نفسه، بمثابة سهل ممتنع، عملية تتطلّب الصبر والتكرار والخيال أيضًا. فعلى مستوى التربية على الاختيار، لا يمكن التنازل عن دور الوصاية والرقابة، لأنّ الطفل يظل طفلًا، يحتاج في هذه المرحلة إلى التدريب على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين الممكن والمستحيل. في المقابل، لا يمكن التشبّث بالسلطة المطلقة، أي فرض ما أريد وبشكل دائم ومستبد، على طفل صغير له رغباته الطفولية العفوية والخيالية أحيانًا، رغبات لا تعترف إلا بالمطلق والممكن، وترفض مسلمة النسبي والمستحيل.

يُعدّ السير بمسالك الهدم، خطوة سهلة ومريحة جدًّا، هدم شخصية الطفل وإضعافها، عمل لا يحتاج إلا للصراخ الدائم أو التجاهل الدائم، نمط الاستبداد العمودي مقابل نمط الفوضى الأفقي، كلاهما يميز تنشئة أطفالنا، وكلاهما يُنجز المهمة نفسها "الهدم" ويحقق الهدف نفسه "الشخصية الضعيفة والمترددة".

ذات يوم، كان أحد الآباء في حانوت الحي. طلبت منه طفلته التي لا تتجاوز 5 سنوات، أن يشتري لها بسكويت ويوغورت، قال لها نعم، لكن عليك أن تختاري واحداً من الاثنين فقط، قالت له: لماذا يا أبي؟ قال لها لأن ما بجيبي لا يكفي لكليهما. صمتت لحظة وابتسمت وقالت له البسكويت فقط، ملوّحة بأيديها باتجاه نوع مزخرف بالألوان، لكنه حديث العهد بالسوق. تدخّل مرّة ثانية وفرض وصايته، وطلب منها أن تختار بين نوع "أ" ونوع "ب" الشهيرين بالسوق المغربية على افتراض أنهما "الأخف ضرراً". ومع التكرار، أصبحت الطفلة الصغيرة تتبنى ثقافة الاختيار وتتخذ في كلّ تجربة قرارها بشكل عفوي وحاسم، ولا شك أنّ هذا السلوك الطفولي هو بمثابة ترجمة فعلية، لمعنى "نسبية الحرية". موقف بسيط جداً، لكنه عميق من حيث المعنى، لأنه يتضمن قيمة الاختيار، وأيضاً القدرة على التوفيق بين الرغبات والظروف المالية المحتملة.

لا يمكن التنازل عن دور الوصاية والرقابة، لأنّ الطفل يظل طفلًا، يحتاج إلى التدريب على التمييز بين الصواب والخطأ

صبيحة يوم أحد وفي أثناء تناول وجبة الفطور، عبّرت طفلة الخمس سنوات عن رغبتها الملّحة في الذهاب إلى مقهى الألعاب بعد الظهيرة. وافقت الأم على مضض، ووقّع الأب موافقته بابتسامة خفيفة في وجه صغيرته، لكن بعد الانتهاء من تناول وجبة الفطور. سارعت الطفلة إلى التلفاز، تطلب مشاهدة الرسوم المتحرّكة. تدخّلت الأم بكلّ صرامة، قائلة: إما مشاهدة التلفاز، وإما الذهاب للألعاب، عليك الاختيار فوراً! غضبت الطفلة، وأطلقت العنان لصراخها الماكر. بعد التجاهل الإيجابي، انطفأ غضبها وعادت إلى رشدها، وأخبرت أمّها بكلّ ثقة وبلا تردّد، باختيارها الذهاب للألعاب. هذا هو بالضبط نمط التنشئة "المتوازن".

يرتبط تطوير قدرة أطفالنا على الاختيار واتخاذ القرار، بالتربية على تحمّل المسؤولية أيضاً، من خلال المشاركة في الأنشطة الأسرية المنزلية كالطبخ والتنظيف مثلاً، أو تحميلهم مسؤولية تنظيم غرفهم، وأيضًا الانفتاح على مقترحاتهم، سواء المتعلّقة بوجهات السفر أو الوجبات الغذائية أو برنامج يوم الأحد... مع الانخراط في مناقشة حرّة لكلّ الاقتراحات المطروحة بكلّ حيادية وواقعية، واختيار المقترحات الملائمة وبشكل متناوب بين أفراد الأسرة، وهنا نكون قد زرعنا بذور الديمقراطية بذوات أطفالنا. 

تتطلّب التربية على الاختيار وتحمّل المسؤولية، الانفتاح على المجتمع من خلال الدفع بأطفالنا وبشكل مبكّر، لخوض تجارب اجتماعية صغيرة جداً، لكنها معبّرة ومقوّية لشخصياتهم. مثلاً، توقفت سيارة بجانب المخبز، طلبت الأم من طفلتها أن تذهب لتحضر رغيفين، وأعطتها 5 دراهم. رفضت الصغيرة في البداية، لكن بقليل من التشجيع والتحفيز، نزلت من السيارة مسرعة تسرق الخطوات، وقامت بالمهمة بشكل خاطف، لكن عادت من دون حصولها على ما تبقى من النقود "درهم واحد". طلب الأب منها العودة، لكنها رفضت بشدّة. بعد العودة إلى المنزل ناقشاها في "المعاملات المالية"، ووعدتهما بأنها ستخبر السيدة صاحبة الخبز بذلك في المرّة القادمة، وطبعاً لم تفعل ذلك! لكنها اقتحمت تجارب التعامل المالي في سنّ مبكّرة، بل تعلمت تقبّل الأخطاء العفوية والاعتراف بها، والقدرة على معالجتها حسب الممكن. 

أظن جازمًا أنّ رسم حدود الحرية الأسرية والاجتماعية، والتربية على الاختيار، وتحمّل المسؤولية خلال الطفولة المبكّرة، تُعدّ مرحلة ضرورية وبمثابة القاعدة الصلبة، التي ستحمي أطفالنا مستقبلاً، في مرحلة المراهقة وما بعدها، من عواصف الحياة "مواقف متعدّدة للاختيار واتخاذ القرار".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows