الواقع الإيراني بعيون المنفى الأميركي.. ذاكرة تقصف في قلب نيويورك
Arab
3 hours ago
share

تباينت ردود فعل الأميركيين والمهاجرين من أصول إيرانية حول الحرب الإسرائيلية على إيران، ومن ثم الضربات الأميركية، وبعدها وقف إطلاق النار. والولايات المتحدة موطن لمليون ومئتي ألف (تُقدَّر أعدادهم أحياناً بمليوني أميركي ومهاجر من أصل إيراني)، بعضهم من الذين يعارضون النظام الإيراني، ويعارضون في الوقت ذاته أي تدخّل خارجي أو حرب تهدف إلى تغيير الحكم أو فرض أجندات خارجية على إيران.

وعلى الرغم من وجود بعض من هلّلوا لتلك الضربات، لأنهم رأوا فيها فرصة قد تخلّصهم من الظلم الذي يشعرون به تجاه الطبقة الحاكمة والمستفيدة في إيران، فإنَّ نسبة لا بأس بها من المثقفين الإيرانيين البارزين في الولايات المتحدة تعاملوا مع الموقف بكل تعقيداته، دون أن يتنازلوا عن مبادئهم في معارضة الاضطهاد الذي يمارسه النظام، ولكنّهم عارضوا بشدّة محاولات دول استعمارية كإسرائيل والولايات المتحدة فرض أجنداتها من الخارج على الشعب الإيراني.

واحد من تلك الشخصيات البارزة هو أرانج كيشافارزيان، وهو أكاديمي وباحث من أصل إيراني مختص في الشرق الأوسط والسياسة المقارنة، ورئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك. كذلك نشر عدداً من الكتب، من بينها: "البازار والدولة في إيران: سياسة السوق في طهران" (دار نشر جامعة كامبريدج، 2007)، و"تاريخ المناطقية في الشرق الأوسط" (جامعة ستانفورد، 2024).

أزارين فان دير فليت علومي: كأن البحر الأبيض المتوسط يتهيأ لابتلاعي

توقفت "العربي الجديد" في نيويورك مع الأكاديمي حول الموضوع ومشاعره وموقفه. يقول: "بوصفي أكاديمياً أميركياً من أصول إيرانية، اعتدتُ التدريس والتفكير والكتابة عن السياسة والصراعات والحرب في الشرق الأوسط، في سياقات تاريخية وتجريدية وعلى نطاق واسع. ولكن عندما "تندلع" الحروب، كما يحدث في أغلب الأحيان، يختلط كل هذا. في زمن الحرب، يعتريني الذهول والعجز، ومن الطبيعي أو الحتمي أن يفكر المرء في أكثر الأمور شخصيةً أو آنيةً تحت تلك الظروف".

ويتابع كيشافارزيان: "يتجه ذهن المرء نحو سلامة أفراد عائلته وأصدقائه، فيحاول رسم خريطة جغرافية القصف وأماكن سكن وعمل أحبّته. يعتريه القلق، ويأمل ألّا تتطابق خريطة الضربات الصاروخية مع أماكن عيشهم وعملهم. وبينما تنهار المباني وتنقلب حياة الناس رأساً على عقب، فإننا، نحن البعيدين جغرافياً، نحاول التشبث بالروابط الملموسة".

ويشير كيشافارزيان إلى أنه "في الأسبوع الماضي، وبينما كانت آلة الحرب الإسرائيلية تُوجّه ضرباتها نحو إيران، ازدادت وتيرة الاتصالات المتوترة، وتواصل الأصدقاء والزملاء والطلاب السابقون والجيران معي عبر الرسائل، سائلين عن حال عائلتي. أرسل لي بعض المعارف رسائل نصية يتمنون السلامة لعائلتي. كان ردي: إنهم بخير، وتجنّبتُ إضافة جملة: في الوقت الراهن".

وفي حديثه عن إحساسه وهو يشاهد مسقط رأسه والمدينة التي ترعرع فيها تُقصف، قال: "بينما كانت جميع أنحاء إيران تتعرض للهجوم الإسرائيلي، تملّكتني صور طهران، المدينة التي ولدتُ فيها، والتي أحتفظ فيها بأكبر قدر من الذكريات. تُعيد مقاطع الفيديو والتقارير عن قصف أحياء معينة إلى الأذهان صور منازل ومبانٍ وحدائق ومتاجر ربما دُمّرت بنيران الصواريخ. أما هجوم إسرائيل، ثم قصف الولايات المتحدة لأماكن لم أزرها قط، مثل كرمانشاه ونطنز وأواز، فكان أكثر تجريديةً وغموضاً، ولكن لدهشتي، اعترتني مشاعر القومية والتضامن والظلم".

أرانج كيشافارزيان: يمكن للوطنية أن تشوّه التاريخ وتَحول دون التحرر

وشرح عن لحظة كاشفة، قائلًا: "لقد تمكنت من إسكات تساؤلاتي الأكاديمية حول سياسات القومية، وكيف تقصي أكثر مما تضم، وكيف يمكن للوطنية بسهولة أن تشوّه التاريخ وتَحول دون التحرر الشامل".

ويشير الأكاديمي الإيراني إلى أنه في "خضم الذعر الذي أصابني بشأن سلامة عائلتي حين دعا المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون الإيرانيين إلى إخلاء مدنهم، سمح لي شعوري بالأمان في نيويورك بأن أقف وأتأمل الروابط بين ما يحدث في إيران وما يحدث في فلسطين منذ أشهر، بل منذ سنوات".

وذكر في هذا السياق محاولات إسرائيل "رسم خط مستقيم يربط بين "آية الله" و"حماس". إنهم يريدون تصوير إيران على أنها القوة الرئيسية، بل الوحيدة، وراء أحداث السابع من أكتوبر. بدلاً من ذلك، حاولتُ رسم روابط بين خوض إسرائيل حرباً ضد إيران، تحظى بشعبية لدى النخب السياسية في الغرب، وتدعمها دول في أميركا الشمالية وأوروبا، في وقتٍ أصبح فيه تدمير غزة وتجويع ملايين الفلسطينيين وصمة عار على سمعة إسرائيل حتى بين حلفائها".

وأضاف: "بعد كل هذه الدماء التي سُفكت، وجرائم الحرب التي أحدثت ثغرات هائلة في النسيج القانوني والأخلاقي، أصبحت حرب غزة "حرباً سيئة"، فيما تريد تل أبيب ومعها واشنطن أن تهلّل وسائل الإعلام والمعلّقون للحرب على إيران باعتبارها حرباً جيدة". وتابع في هذا الصدد: "للحرب على إيران فوائد أخرى عديدة لنتنياهو وحلفائه، تتجاوز إنقاذ حكومته ومسيرته السياسية، حيث من الممكن أن تستمر مذبحة الفلسطينيين الجائعين في مراكز توزيع الغذاء بغزة، بينما تغمر التقارير عن إيران عناوين الأخبار".

ولفت كيشافارزيان الانتباه إلى كيفية استغلال إسرائيل للصواريخ الإيرانية لإحكام قبضتها على بقية فلسطين والفلسطينيين. يقول: "تُستخدم الصواريخ الإيرانية لعزل الضفة الغربية أكثر فأكثر، ومعاملة المواطنين الفلسطينيين في الداخل كمشتبه بهم. يحدث هذا في الوقت الذي تعلن فيه إيران "التهديدات الداخلية والخونة"، وتُعدم ثلاثة منهم على الأقل، وتُشوّه سمعة أكثر من خمسة ملايين أفغاني في إيران على أنهم طابور خامس".

وأشار الأكاديمي الإيراني إلى العواطف المختلطة والمختلفة التي تراوح بين القلق والاطمئنان على عائلته في إيران، وبين مشاعر الذعر التي تعتريه مع كل موجة من الهجمات العسكرية وانقطاع الإنترنت، في الوقت الذي يحاول فيه أن يجد مرتكزاً متجذراً في حياة الناس، الذين يعرف بعضهم، لكنه لم يلتقِ بمعظمهم قط.

وأشار كيشافارزيان في هذا السياق إلى البيان الذي صاغته مجموعة من الأكاديميين الأميركيين من أصول إيرانية، دعوا فيه إلى إنهاء الحرب. يقول: "غالباً ما تبدو هذه الجهود بسيطة وغير مجدية، لكنني أظن أن العديد من الأميركيين من أصل إيراني وغيرهم شعروا بالحيرة في الأيام القليلة الماضية. المكالمات الهاتفية والعرائض هي محاولات لإعادة صياغة عالمنا البائس وكسر الصمت الذي فرضه هؤلاء الرجال الذين اختاروا الحرب".

هذا التقلّب في المشاعر بين القلق على الأحباء وذكريات الطفولة التي خلّفناها وراءنا، وبين تلك الأوطان التي لا تزال تسكن أعماقنا رغم المسافة، تجسّده أيضاً الروائية والأكاديمية من أصل إيراني، أزارين فان دير فليت علومي، المقيمة في الولايات المتحدة، والحائزة عدداً من الجوائز الأدبية المرموقة، وصاحبة روايتين بالإنكليزية، إحداهما بعنوان "ألسنة متوحشة". وفي حديثها مع "العربي الجديد" عن تجربتها في أثناء الحرب الإسرائيلية على إيران، تقول أستاذة الأدب بجامعة نوتردام: "كنتُ في إيطاليا يوم 13 يونيو/حزيران، حين شنّت إسرائيل أولى ضرباتها الجوية مستهدفة مواقع نووية وعسكرية في إيران، مطالبةً بشكل غير قانوني بالسيطرة على أجوائها. حين بلغني الخبر، كنتُ أسير على شاطئ ليغوريا، أحدّق في المياه الخضراء الصافية، وفي تلال سينك تير التي تمتدّ بهدوء عبر الخليج، وفجأة اجتاحتني موجة شعورية هائلة، وكأن البحر الأبيض المتوسط بأسره يتهيأ لابتلاعي".

تلك الحالة من الرعب والذهول بقيت ترافقها طوال أيام الحرب إلى أن أُعلن وقف إطلاق النار يوم الاثنين الفائت. تقول للعربي الجديد: "خلال اثني عشر يوماً من القصف، كان جسدي في إيطاليا، يتجوّل بين قرى خليج الشعراء الساحرة في ليغوريا، لكن عقلي وروحي كانا في مكان آخر. في بعض الأحيان كانت تحوم فوق مبنى عمتي الكبرى، حيث كانت تسير ذهاباً وإياباً في غرفة المعيشة الخاصة بها، أمام النوافذ التي فُجِّرَت بواسطة قنبلة ضربت المبنى المقابل لها".

وتتابع في إشارة إلى المصائر التي لا تنقل تفاصيل حياتها نشرات الأخبار: "وتارة أخرى، كنت أتخيّل نفسي أتجوّل في دماوند، حيث كنت أقضي عطلات نهاية الأسبوع في طفولتي، لكنني الآن أبحث عن عمي الذي شُخِّص، في اليوم الذي سبق الهجوم الإسرائيلي، بإصابته بالسرطان، ولجأ إلى الجبال مع زوجته وأطفاله. أما طبيب الأورام الذي عالجه، فهرب براً إلى تركيا بعد ذلك بوقت قصير، ولم يُعثر عليه في أي مكان".

وعن ذلك الالتصاق بالهاتف والرعب منه، فهو نافذة إلى وطن بعيد، وهو رسول المصائب كما الأمل، تقول: "كنت أستيقظ كل صباح وقلبي يكاد يهرب من فمي، أستيقظ على رسائل نصية من أصدقاء لم يتمكّنوا من التواصل مع آبائهم، ومن أصدقاء عادوا إلى إيران (في زيارة للأهل) ولا يعرفون الآن متى وكيف سيعودون إلى أماكن سكناهم".

ولفتت الروائية الانتباه إلى أن الحرب أظهرت تلك الهشاشة بشكل أوضح، لكن الحياة عموماً في إيران، تحت النظام وقبل الحرب، كانت هشة كذلك. وتضيف: "إيران، التي أصبح شعبها منهكاً، وتدهورت معنوياته أكثر بسبب الحرب، أصبح في قبضة التناقض الذي لا يمكن حلّه، وإحساسه بالواقع، الذي كان بالفعل هشاً، أصبح الآن سائلاً.

لكن اليوم، وقف إطلاق النار! اليوم، كلمات ترامب: "بارك الله في إيران". بارك الله في العالم. بارك الله في درب التبانة. ها قد وصلنا. الآن، بارك الله فينا جميعاً! يمكننا جميعاً المضي قدماً. نحو ماذا؟".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows