
الذائع أن حاسوباً خاصاً في رئاسة الأركان الإسرائيلية يختار مسمّيات العمليات العسكرية عندما يبدأ بها جيش الاحتلال، بعد أن يُغذّى بمعلوماتٍ لازمةٍ عن طبيعة كل حربٍ وأهدافها. وليست مؤكّدةً، أقله لكاتب هذه المقالة، صحّة هذا الكلام، لكنّ هذا ليس مهمّاً، فالأهم أن التسميات التي تُخلع على الاعتداءات المتتالية التي تُواظب الدولة العبرية على اقترافها غالباً ما تُحيل إلى ما هو توراتي وديني يهودي ("عناقيد الغضب" ضد لبنان في 1996 و"عربات جدعون" في غزّة أخيراً)، ويحدُث أن تؤشّر إلى الطبيعة ("البرق" في غزّة 2006)، ويحدُث أن يكون كيفما اتفق، أو ساخراً ("الزفاف الأحمر" قتل القادة العسكريين في إيران أخيراً). ... ولكن، من أين جاءوا باسم "السمك المملّح" الذي كشف عنه جندي إسرائيلي لصحيفة هآرتس، في تحقيقها الذي أكّد ما هو مؤكّد، أن قتل الغزّيين عند نقاط توزيع بعض المؤن في مركز للمؤسّسة الأميركية المشبوهة مأمورٌ به، ويُقترَف عمداً؟ ولئن كانت الترجمة تذهب إلى "السمك المالح" أحياناً، فإن المقصود، على ما يُفهم، هو "الفسيخ" (الجافّ الذي يُحتفظ به مدّة مملّحا)، ومن عاداتٍ تكاد تغيب أن يحضُر هذا السمك في فطور يوم عيد الفطر، وإنْ يؤكَل في أي وقت.
كأنها واحدةٌ من نوبات العبث التي يحترفها رؤوسُ العدوان ومجرمو الحرب الحاكمون في دولة الاحتلال، فليس من مجازٍ أو استعارةٍ أو كنايةٍ أو أيٍّ من بلاغات القول، في تسميتها "سمكاً مالحاً" عملياتِ القتل بتعليماتٍ من قيادات جيش الاحتلال لجنوده، بأن يفتحوا النار على جموع الغزّيين غير المسلّحين، لإبعادهم عن مراكز توزيع المساعدات الإنسانية، رغم أن لا تهديد منهم. وحسناً صنع صاحب التحقيق في الصحيفة أنه ذكّر بأن هذه ليست المرّة الأولى لتعليماتٍ مثل هذه، فمألوفٌ هذا في الجيش الذي يواظب قادتُه على الكذب عن "طهارة السلاج" في أيدي جنوده وضبّاطه. تُراهم، أولئك، زوّدوا ذلك الحاسوب، الغامض في وصف تقريرٍ تلفويوني عنه، بأن مذاقاً مالحاً في نفوسهم وهم يفترضون في أنفسهم أنهم "يضطرّون" إلى قتل الفلسطينيين العزّل، الجائعين المحاصرين، هناك في قطاع غزّة، وقد قالتها غولدا مائير منذ نحو 60 عاماً إن الله لن يُسامح الفلسطينيين لأنهم يضطرّون الإسرائيليين لقتل أطفالهم. ومعلومٌ أن تلك الدردبيس من أمرَت بقتل المناضل الفلسطيني وائل زعيتر في روما، في عمليةٍ سمّتها "غضب الله"، وتلتها بجرائم قتل عديدة، منها التي سُمّيت "ربيع الشباب" في اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار في بيروت في 1973.
لا يُسعفني مرجعٌ يُعتّدُ به في فهم هذه التسمية لجريمة القتل المشهودة، والموثّقة، غير أن اسم كتاب بسّام أبو شريف "السمك المالح" (بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 2021) سيأتي إلى البال، عن اغتيال إسرائيل ياسر عرفات بالتسميم، ومحاولات قتله في بيروت. وقد اختار القيادي السابق في الجبهة الشعبية هذا الاسم لكتابه (الجيّد بالمناسبة) مما كشفه الصحافي الإسرائيلي، رونين برغمان، في كتاب له نشرَه في 2018، عن الموضوع نفسه، أن وحدةً من القوات الخاصة في جيش الاحتلال، حملت اسم "السمك المملّح" أوكلت لها مهمّة قتل عرفات، واسم رئيسها عوزي دايان، ونفّذت نحو عشر محاولاتٍ في هذا. ومن كثيرٍ يفيد به ذلك الكشف الذي "تسلّح" به أبو شريف أن غرام أجهزة دولة الاحتلال بالسمك المملّح (هل هو الفسيخ كما أعتقد، أم الرّنجي، بالتسمية المصرية للسمك المملّح المدخّن؟) قديم، منذ ما قبل "حماس"، منذ الزمن البيروتي لمنظّمة التحرير. إذ يعتمدون هذا السمك لاسم وحدة اغتيالٍ خاصة، وبعد عقودٍ يعتمدونه مسمّى عمليةٍ عسكريةٍ، أو جريمة حربٍ في توصيفٍ أصحّ، في غزّة، ليُقتل فيها فلسطينيون لا حول لهم ولا قوة.
كأنها إسرائيل لم تُغادر عقلية العصابات التي أنشأت الدولة في عام النكبة المعلوم. كانت تلك تقتل المدنيين الفلسطينيين كيفما شاءت، في مذابح وجرائم صُغرى وكبرى، في قرىً وبلداتٍ ومدنٍ وأرياف بلا عدد. كأن الدولة، النووية، الحليفة الأهم للولايات المتحدة والغرب، الأقوى في المحيط والإقليم والمنطقة، لا يقرّ لها قرار من دون أن تزاول القتل، فيؤمَر جنودُها وضبّاطُها بأن يستطعموه في أي وقت، وضد غزّيين مستضعفين، كما لو أنهم يزدردون سمكاً مالحاً، على ما سمّوا، لسببٍ لا أعرفه، جريمتهم المستجدّة.
