
في مسيرة الزمن، تعود معها الذكريات؛ و من الذكريات ما يطويها الزمن، و ينساها الإنسان، و منها ما يتجدد كلما تجددت الأعوام و السنون.
و من الذكريات التي تتجدد، و تجدد ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
تبقى الهجرة النبوية تتجدد في ما تقدمه من دروس متجددة و دلالات عميقة،و آفاق توحي بها لزمن حاضر، و ظرف ماثل، و لكل مكان ، وِفق ما يستجد في الزمان، و المكان.
ضاقت شعاب مكة على اتساعها ، و انكمش واديها على امتداده ، و غدا المسلمون في مكة المكرمة قبل الهجرة، محاصرين و ملاحقين، و تحت إقامة جبرية، إلا من يتسلل خفية ، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة.
و كان يرافق هذا الكبت و الحصار القمع و الملاحقات و الحبس لإجبار المسلم على التخلي عن دينه.
كانت أعين الملأ تراقب المسلمين، و عيونهم تترصدهم، و كثيرون من العامة كانوا يأكلون بهم و يتَعيّشون لدى أولئك الذين أطلق عليهم الملأ.
ألا تبا للأقزام ؛ الذين يصبحون هم الملأ في غفلة من الزمن، و تبا للمتعيشين الذين يتحولون إلى عبيد يَتَسَقّطون الكلام، أو يفترونه؛ ليحظَوا بشيئ من فتات على مائدة الأقزام، الملأ !
ألا ترون أن الأقزام الملأ ، يتكررون، و أن موائدهم تطفح بسنتات الدولار، و فلسات الدراهم و الدينار للمتعيشين ؟!
تتكرر الظروف ، و يتكرر الأقزام ، و يتكرر معهم المنتفعون، و المترزّقون !! و لكن ؛ يتكرر أيضا الشموخ، و الهامات الأبية، و يتكرر العمالقة، ممن يستعصون على التّطويع، و يرفضون المذلة، و يدعسون سنتات الأرصدة،و دولاراتها.
لقد عاش المسلمون قبل الهجرة في شدائد و محن و معاناة،
لكنهم اجتازوا مدرسة الصبر بنجاح، يتمسكون بالمبدأ، غير عابئين بالملأ الأقزام. فلم ينسحبوا من الميدان، و لا تخلوا عن المبدأ.
لقد ورث ( ملأ ) اليوم عن مَــلأ الأمس، الهمجـــية و الحقد، و التعالي الأحمق ، و ورث مؤمنو اليوم عن مؤمني الأمس الصبر و الثبات و الشموخ.
إن لكل محنة نهاية، و لكل نصر أوان، و لكل طغيان زوال .
جاء الأمر للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنــــورة ، فلبوا مستجيبين بلا تردد؟
هل لنا أن نتصور أننا عشنا ذلك الزمن،و جاء الأمر بالهجرة و مفارقة الأهل، و ترك الوطن و المال؟ أكنا فاعلين؟
لندع التصور الافتراضي ؛ و لنقف أمام ما هو قائم. فواجبات اليوم ماثلة، و متطلبات اللحظة حاضرة، و أولوياتها واضحة، و ما لنا و الذين يبحثون عن بطولات استعراضية ، بعيدا عن متطلبات الفرض و الواجب، بعيدا عن الأولويات العليا، راضون بأفعال بلا تبعات ، و منتشون بأقوال تملأ الفم ، و تصم الآذان، و تتبخر بلا ثمار.
ما أعظمها دروس الهجرة ! و ما أعظمها من تضحية ! وما أجلّه من بذل. لقد قدموا كل ذلك راضين طائعين ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون).
إلى أين يهاجرون ؟ من سيستقبلهم ؟ من سيؤويهم ؟
إلى المدينة المنورة ، و المدينة تسكنها قبيلتان عربيتان هما الأوس و الخزرج، و أصلهما من اليمن، و كان أشد ما يفاخر به العربي التعصب لقبيلته، و لا يسمح لأي قبيلة أن تخالطهم، فكيف يمكن لمجاميع من قبيلة ، و من قبائل أخرى أن تحل فيهم، و تسكن بينهم.
هنا كان العجــب العجــاب ، لقد استقبل الأوس و الخزرج المهاجرين بكل ترحاب، و حب، و رحابة صدر (والذين تَبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
إنها الأخوة الصادقة التي لا يعرفها الملأ ( إنما المؤمنون إخوة) ، هناك آخى الرسول بين المهاجرين و الأنصار( لو أنفقت مافي الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).
ما أحوج الأمة في هذه الظروف الشديدة البؤس،إلى مبدأ الإخاء و الأخوة " إنما المؤمنون إخوة "
كانت الهجرة ـ أيضا ـ بديلا للمكان،و الميدان، و خيارا آخر للفعل و العمل .
هل خرج المهاجرون لينشغلوا بأمور أخرى؟ أو بمناكفات أو خلافات ، أو لَوم يحاربون به بعضهم بعضا ؟ كلا، و كان هناك عشرات المظاهر التي يمكن أن تكون سببا للاختلاف و التلاوم.
إن صاحب المبدأ لا ينسى مبدأه، و صاحب الهدف لا ينجر إلى تسطيح المواقف، و لا يتحول إلى محلل سياسي يفلسف القول بعيدا عن المبدأ و الهدف و الغاية.
إن صاحب الهدف و المبدأ يُخضِع كل حركة أو قول أو فعل لما يناصر مبدأه، و أول هذه الوسائل وحدة الصف التي تقوم على وضوح الهدف، و العمل الجاد لتحقيقه.
لقد كان يوم الهجرة هو الخطوة الأولى نحو فتح مكة التي خرج منها المسلمون مهاجرين. لكنهم عادوا إليها فاتحين منتصرين.
يتشابه حالنا اليوم مع بعض حال المسلمين قبل الهجرة فالطغاة يتكررون، لكن أصحاب المبادئ يتكررون أيضا، فالحوثي يسير على نهج الطغــــاة، يحمل حقـدهم و مكــرهم و باطلهم ، و أصحاب المبادئ يتكررون، و يسيرون على نهج أهل الحق مقاومة و جهادا و ثباتا( ولينصرن الله من ينصره ).