ما بعد المناطقية: نحو هُويّة سورية جامعة
Arab
3 days ago
share

مع انتقال أعداد كبيرة من السوريين إلى العاصمة دمشق بعد تحريرها، سواء للعمل في مؤسّسات الحكومة الجديدة أو لممارسة التجارة أو حتّى لزيارات مؤقّتة، برزت بعض الأصوات هنا وهناك تُبدي تذمّرها من كثرة وجود مواطنين سوريين من خارج مدينة دمشق، في خطاب يعكس نزعة مناطقية خطيرة، ترفض الآخر بناءً على الانتماء الجغرافي داخل الوطن الواحد.

يبدو أنّ عقلية هذه الفئة ما زالت متأثّرة ببقايا أفكار حكم البعث وعائلة الأسد، ولا تزال تفكّر بمنطق "سورية الأسد" أو "المركز والأطراف"، أو "الريف والمدينة"، مذكّرة السوريين بسياسات التمييز والإقصاء التي عانوا منها لأكثر من خمسة عقود في ظلّ الحكم البائد الذي تبنّى شعار "فرّق تسد"، إذ عمد إلى تهميش بعض المناطق تنموياً مع أنها توصف بسلّة سورية الغذائية، مع السعي لرسم صورة نمطية سطحية لسكان بعض المناطق الأخرى بهدف إذكاء الانقسام بين السوريين، وإدامة سلطته من خلال تفكيك روابطهم الاجتماعية، وزرع الخوف من الآخر في قلوبهم، ومنع أيّ نشاط مدني اجتماعي أو ثقافي أو سياسي من شأنه أن يوحّد كلمة السوريين.

كما تعمّد النظام البائد أيضاً تعزيز مركزية السلطة في صنع القرار والثقافة والإعلام، وهمّش العديد من المناطق الأخرى ما عمّق شعور الأطراف بالإقصاء، حتى إنّ أبناء بعض المناطق كانوا يلجأون لإخفاء انتماءاتهم الجغرافية أو يغيّرون لهجاتهم أو يعدلونها لتُقارب لهجة "المركز"، خوفاً من النظرة النمطية السلبية التي صنعتها سياسة التفرقة والتهميش التي اتبعها النظام، مع أنّ اللهجات ظاهرة لغوية موجودة في أكثر المجتمعات، وينبغي فهمها في سياقها اللغوي والثقافي.

البنية النفسية للمجتمع التي خلقها النظام البائد ساهمت في تغذية نظرة التوجّس المتبادلة بين كثير من أبناء الوطن الواحد

وفي مؤسّسات مثل الجامعة أو المؤسّسة العسكرية، إذ يجتمع أبناء مختلف المناطق، غالباً ما كانت تتشكّل تكتّلات مناطقية ما يعكس غياب الشعور بالاندماج الوطني، ويُظهر كيف أنّ البنية النفسية للمجتمع التي خلقها النظام البائد ساهمت في تغذية نظرة التوجّس المتبادلة بين كثير من أبناء الوطن الواحد، فالنزعة المناطقية التي ترسّخت خلال عقود من الحكم السلطوي لم تكن مجرّد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل كانت نتاجاً لسياسات مقصودة شوّهت مفهوم المواطنة، وأضعفت شعور الفرد بالانتماء إلى وطنه.

لكن الثورة السورية كشفت زيف تلك الصور النمطية التي وُصفت بها بعض المناطق السورية، وقدّم السوريون الأحرار خلال سنوات الثورة من مختلف المناطق نموذجاً وطنياً جامعاً، وأثبتوا قدرتهم على التكاتف والوقوف صفَّاً واحداً في وجه الظلم، متجاوزين الانتماءات المناطقية الضيّقة، ومدفوعين بروح وطنية صادقة تطمح إلى العدالة والحرية والمساواة.

واليوم، في ظلّ المساعي الكبيرة لإعادة بناء الدولة السورية الجديدة يبرز التحدي الكبير المتمثّل في بناء هوية وطنية سورية جديدة أيضاً خالية من تشوّهات الماضي ونزعات المناطقية، وتؤسّس لانتماء وطني حقيقي يقوم على العدالة والتشاركية والمساواة. ولنجاح هذه المساعي لا بُدّ من مراجعة القناعات الفردية والاجتماعية التي تكرّس المناطقية، وإعادة اكتشاف السوريين لبعضهم البعض، وإعادة اكتشاف الجغرافيا السورية وثقافاتها من جديد، من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها.

لا يمكن الحديث عن بناء سورية المستقبل من دون الاعتراف بالجراح ومعالجتها بصدق وشجاعة

تجربة المحرَّر

قدّمت مدينة إدلب نموذجاً حيّاً للتعايش الوطني العابر للمناطقية بين أفراد البلد الواحد، فقد احتضنت في السنوات الأخيرة الملايين من السوريين من مختلف المناطق، من دون أن تسجّل فيها حالات تُذكر من النعرات المناطقية، رغم الضغوط الاقتصادية والخدمية والتهديدات الأمنية المتمثّلة بالقصف المتكرّر للنظام البائد. ولم تقف اللهجات أو العادات أو الانتماء الجغرافي عائقاً أمام تعايش الناس واندماجهم الاجتماعي، بل ربما كانت تلك الاختلافات حافزاً لهم لاكتشاف شركائهم في الوطن عن قرب، وتفكيك الصورة النمطية عنهم، وإعادة بناء الثقة فيما بينهم، فقدّموا نموذجاً واقعياً على قدرة السوريين على التعايش والتعاون حين تتوافر البيئة المناسبة والخطاب الجامع، وأثبتوا أنّ الهُويّة السورية يمكن أن تكون شاملة، تتسع للجميع من دون إقصاء أو تمييز.

نحو مشروع وطني جامع

إنّ بناء سورية الجديدة يتطلّب إعادة تصوّرٍ لبعض المفاهيم في أذهان الشعب، وفي مقدّمتها "الوطن" و"الوطنية" و"المواطنة"، التي جرى تفريغها من معناها الحقيقي في ظلّ النظام البائد، وتحويلها إلى شعارات جوفاء تغنَّى بها رجال النظام وإعلامه، وصار الوطن مختزلاً في شخص الحاكم، وصار مقياس الوطنية مرهوناً بمقدار الولاء لشخص الحاكم لا للوطن أو لقيمه. لذلك لا بُدّ من إعادة الثقة والاعتبار لهذه المفاهيم وبناء خطاب وطني جامع يشجّع على الانتماء إلى سورية بصفتها بلداً يتّسع للجميع.

واليوم، لا يمكن الحديث عن بناء سورية المستقبل من دون الاعتراف بالجراح ومعالجتها بصدق وشجاعة. وكذلك لا بُدّ من تطوير مناهج تعليمية تُعلي من قيمة "المواطن الصالح" من دون النظر إلى هُويّته الجغرافية، إضافة إلى ضرورة وجود إعلام مسؤول يتجاوز الاعتبارات المناطقية، ولا يقدّم منطقة على حساب أخرى، ويعزّز قيم الحرية والعدالة والمساواة.

كما أنّ بناء دولة سورية جديدة وهُويّة وطنية جديدة يتطلّب تجاوز المصلحة المناطقية التي ينادي بها بعض الأفراد أو بعض الجماعات، والتي تعزّز الانقسام والكراهية، ويتطلّب الإيمان بدولة قانون يتساوى فيها جميع المواطنين على مبدأ تكافؤ الفرص، بحيث يشعر كلّ فرد فيها أنه ينتمي إلى هذه الدولة وأنّ له حقوقاً وعليه واجبات، ويتعاون الجميع على تأسيس الدولة الجديدة التي تقوم على أسس المواطنة الحقيقية والعدل والمساواة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows