صيف طه حسين
Arab
1 week ago
share

دلفنا إلى الصيف، وفيه إجازاتٌ من العمل وأسفارٌ للراحة ولاعتدال المزاج، وفيه التخفّف من واجباتٍ والتزاماتٍ ضاغطة، وفيه إنجازٌ لأعمالٍ مؤجّلة. وقد كتب طه حسين "في الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها، فتوشك أن تنام ولا تسري إلا على مهلٍ يشبه الوقوف، وفي أناةٍ تضيق بها النفوس"، وذلك في مقالته "من لغْو الصيف إلى جدّ الشتاء" في كتابه الذي عنونه "من لغو الصيف" (1953)، وجمع فيه مقالاتٍ تنوّعت تأمّلاتُها، كان قد نشرها متفرّقة. يكتب "نقضي الصيف في بلادنا إن لم نكن من المُترفين الذين لا يكادون يحسّون الصيف حتى يعبروا البحر إلى حيث يحيوْن حياة أخرى، أو لا يكادون يحسّون الصيف حتى يسرعوا إلى ساحل البحر، فيحيوْن حياة خيرٌ منها ما نحن فيه من كسلٍ وفتور، ومن تقصيرٍ وقصور". ويبدو العميد، في هذا النص، هجّاءً للصيف، مُؤثراً عليه الشتاء الذي يراه "شيئاً آخر كله فرح ومرح، وكله حركة ونشاط، وكله حياة خصبةٌ عذبةٌ مُنتجة، تجد فيه النفوسُ أقصى لذّاتها، وتجد فيه الأجسام أقصى قدرتِها على الاستمتاع. أكل ٌ كثيرٌ، وشربٌ كثيرٌ، واضطرابٌ في الأرض كثيرٌ، وإقبالٌ على العمل، ونسيانٌ للكسل، وحياةٌ مملوءةٌ إلى حافّتها، تفيض أو تكاد تفيض بما يُفعمها من الآمال والأعمال". إنه يحسم "أرأيتَ أن الصيف هو الفصل الذي يحسُن فيه اللغْو، وأن الشتاء هو الفصل الذي لا يحسُن فيه إلا الجدّ، ولا يمكن فيه إلا الجدّ؟". واللغْو، فيما أظنّه من معنى له، هو الكلام الذي لا طائل منه، والأشبه بالثرثرة، ويُضيَّع فيه الوقت. وقد اكترث صاحب "الأيام" بالفلاحين الذين "يعملون في الأرض"، ولا يحفَلون في الشتاء بالبرد ولا يحفَل بهم.

وكان طه حسين قبل تلك المقالة، الطلْقة، قد كتبَ نصّاً، أظنّه أرفع قيمةً، أصدره في كتابٍ صغير (62 صفحة)، في 1932، سمّاه "في الصيف"، تجوزُ نسبتُه إلى أدب الرحلات، فهو يتعلق بسفْرةٍ له بحراً من مصر إلى فرنسا (ربما الثالثة)، يسترسل في خواطر واستدعاءاتٍ يأتيها، يطوفُ فيها على عدّة شؤون، منها الذاتي والعام، ومن دون أن يعيّن ويحدّد، ثمّة حضورٌ هنا لتلك الأزمة التي شبّت بينه وبين الأزهر بصدد كتابه "في الأدب الجاهلي". ويكتُب "إذا أقبل الصيف دنوتُ من نفسي فاستفتحتُ بابها، فإذا فُتح لي هذا البابُ نظرت؛ فما أسرع ما أذكُر الحُطيئة حين رأى وجهه في صفحة الماء فهجاه، أستعرض ما عملتُ، فإذا هو منقوصٌ، وإذا التقصير يعيبُه ويفسدُه. وأستعرض ما قبلتُ من الناس فإذا هو رديء مشوّه مهين،...". ومن بدائع ظاهرةٍ في هذا النص الشفيف أن الرحلة لا تكون فقط بحراً إلى فرنسا، مروراً بغير بلدٍ وميناء، وإنما أيضاً رحلةٌ في طه حسين نفسه. يكتُب "كل شيء من حولي هادئٌ حتى موج البحر، ورياح الجو، وحتى صوت السفينة المطّرد؛ إلا هذه النفس فإنها ثائرةٌ مضطربةٌ ليست بالهادئة ولا المطمئنة".

وفي ظنّي أن صاحب "الحب الضائع" يعلّم عندما يكتُب "أزعم إن الذي يعنيني قبل كل شيء حين أزور بلداً من البلاد إنما هم أهل هذا البلد، وأساليبهم في التصوّر والحسّ والشعور والحياة بوجه عام". وعلى ما في النصّ من بهجة السائح الجوّال (مع ابنه وبنته وزوجته) في ملاعب باريس وساحاتها (وعشرة أيام في الإلزاس)، إلا أنه يعتني بما أشار إليه. ومن غرائب ما كتب أن النساء هنا "متجرّداتٌ في النهار على الساحل، متجرّداتٌ في الليل إذا أقبلن إلى الكازينو، ولكنهن لا يُظهرن من أجسامهن في الليل ما يُظهرن في النهار، إنما يُظهرن في النهار نصفاً، وفي الليل نصفاً آخر: للنهار الأعجاز، ولليل الصدور". ... كيف للرجل الكفيف، والذي وُصف عن حقٍّ بأنه الرائي، استطاع أن يحدس بهذا الأمر؟.

لا أحسبُه كلاماً من لغو الصيف ما جاء به في كتابه الرائق هذا، ولا تأتي هذه السطور على كل ما طاف فيه صاحبُه، غير أن من المدهش ربّما أن يكتُب في هجاء الصحافة المصرية "لقد أقرأ الصحيفة الفرنسية فأجد في قراءتها متعةً لا حدَّ لها، ثم تصل إلينا صحفُنا المصرية فلا أكادُ أمرّ بما فيها من العنوانات حتى أنصرفَ عنها انصراف المشمئز".... ليس من أعراف الصحافات العربية أن تُرشّح لجمهورها كتباً لتكون من "قراءات الصيف"، لغير سببٍ وسبب، ولكنّي هنا أفعلها، وأرشّح كلّ طه حسين لقراءته في هذا الصيف... وكلّ صيف.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows