في الهيغلية السورية... المعقول والواقع
عربي
منذ يوم
مشاركة
أصبحت مقولة الفيلسوف هيغل "كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي" إعلاناً فلسفياً للثقة بالتاريخ المُجسِّد مسارَ الوعي نحو الحرية. لكنّ تلك المقولة تحوّلت في بيئاتٍ سلطوية ذريعةً لتقديس الواقع. أدرك ماركس أنه لا يكفي أن نفهم كيف يعمل التاريخ، بل يجب أن نغيّر القوى التي تصنعه، فلم تعد مهمة الفلسفة تفسير العالم أو تبريره بنسخة هيغلية مشوّهة، بل تغييره. ولو عايش ماركس التجربة السورية اليوم لكان شاهداً على تحوّل الهيغلية استقالةً فكريةً، يصعب قلبها لتقف على قدميها، فبدلاً من أن تكون الثورة لحظة انتقال من الوعي إلى الفعل، صارت مناسبةً لإعادة إنتاج البنية نفسها باسم الواقعية والمعقولية، وباسم الانتقال والمصلحة الوطنية. أراد ماركس تحرير الإنسان من وهم الضرورة. أمّا الهيغلية السورية، فتجعل الضرورة عقيدةً جماعيةً. حين سقط النظام في ديسمبر/ كانون الأول 2024، خُيّل للسوريين أنهم طووا صفحة من تاريخهم، لكنّهم اكتشفوا سريعاً أن صفحةً جديدة تكتب بحبر القديم. تغيّر الحاكم، لكن لم يتغيّر نمط التفكير. وورثت السلطة الجديدة عقل الدولة القديمة: البيروقراطية ذاتها، واللغة نفسها التي تمجّد الاستقرار قبل الحرية. سقط الجسد السياسي، لكنّ الوعي الذي برّره بقي حيّاً داخل المؤسّسات وفي عقول الناس معاً. وفي ظلّ الهيغلية المسيطرة لا ضمانات لأن تكون المرحلة الانتقالية عابرةً، بل قد تبقى حالةً فكريةً مستمرّةً وزمناً بلا نهاية عنوانه "الاستثناء المستمرّ". دولة مؤقّتة، ودستور مؤقّت، ووعود مؤقّتة... هل يصبح المؤقّت الدائم الوحيد؟ في هذا "الانتقال الدائم"، فكرياً على الأقلّ، تقدّم كل خطوةٍ ناقصة ضرورةً، وكلّ تأجيلٍ حكمةً، والاستثناء نظام حكمٍ جديد، يديره عقلٌ لا يعرف كيف يبدأ، ولا يريد أن ينتهي. تتحرّك البلاد في دائرة من "الإصلاح المُعلَّق"، تُعيد إنتاج نفسها تحت شعار "لسنا جاهزين بعد". أنجبت الهيغلية السورية ابنتها الشرعية: الواقعية المبرِّرة؛ نزعةٌ فكرية ترى أن المصلحة أهمّ من المبدأ، وأنّ الأمن أولى من العدالة، وأنّ "المرحلة التأسيسية" تقتضي صبراً على حرّيات منقوصة، وعلى المواطن أن يتلقّى القرارات لا أن يصنعها. لا تكتفي الهيغلية السورية بتبرير الواقع، بل تُريد تجميله، فتمنح الانتخابات الشكلية الوهم بوجود إرادة شعبية. لكن في غياب قانون انتخاب ديمقراطي يصوّت الناس بـ"نعم"، لكنّهم لا يختارون طالما أن النتائج محسومة سلفاً لصالح "العقل الوطني الجامع"، ولبروباغندا تروّج الاختلافَ خطراً في مرحلة إعادة البناء، و"الإجماعَ" تعبيراً أعلى عن الوعي. تتحوّل الديمقراطية الغائبة من القاموس الهيغلي السوري طقساً رمزياً لإعادة إنتاج السلطة بطريقة أنيقة. من قال إن الانتخابات الشكلية خدعة؟ هي تمرينٌ اجتماعي على الطاعة باسم المشاركة، ولا يزال المجتمع في العمق أسير "ذاكرة الطاعة"، التي جعلت الناس يربطون الاستقرار بالصمت، ويرون في الحرية تهديداً للوحدة. رغم هذا الحرص الظاهري، تفتّت الذاكرة إلى رواياتٍ متناقضة، فلكلّ مدينةٍ سرديتها، ولكلّ طائفةٍ تاريخها الخاص، حتى صار الوطن نفسه ذاكرة متقطّعة بلا خيطٍ جامع. ولّدت هذه الذاكرة "وعياً مُعلَّقاً" يدرك الحاجة إلى التغيير، لكنّه يخشاه، ما عطّل تغيير النظام، وأبقى الثورة ناقصةً، وجعل من الانتقال مشروعاً مؤجّلاً إلى ما لا نهاية. لا تقاس المرحلة الانتقالية بعدد القوانين الجديدة، بل بقدرتها على تحرير الفكر من التبرير باسم "العقلانية السياسية"، وإلا ستبقى سورية تعيد إنتاج الاستبداد بأشكالٍ أنيقة، ويُحوّل الاستثناء نظاماً دائماً. التحوّل الحقيقي لا يبدأ من الدستور، بل من السؤال الفلسفي عن معنى الدولة والحرية. وما لم يصبح هذا السؤال شأناً عامّاً، ستبقى الديمقراطية ديكوراً انتخابياً معلقاً على جدار الخوف. وليست الهيغلية في نسختها السورية فلسفةً، بل مرضٌ تاريخيٌّ: تحويل العقل خادماً للضرورة، والحرية ترفاً يُؤجَّل باسم الواقعية. ربيع سورية الحقيقي لا ينتهي بسقوط الأنظمة، بل بتحرّر الوعي من عادة تبريرها، وإدراك أن "الواقعية" لا تعني قبول الواقع، بل القدرة على الفعل الممكن. عندها فقط تبدأ المرحلة التأسيسية الحقيقية، وتغادر البلاد زمن الهيغلية المشوّهة إلى زمن العقل الخلّاق. تحتاج سورية إلى جيل يقرأ هيغل ليفهم التاريخ لا ليبرّره، ويقرأ ماركس ليتعلّم أن كل ما هو واقع يجب أن يكون معقولاً.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية