
عربي
تتصاعد المخاوف في أوروبا من زحف المنتجات الصينية إلى أسواقها، بعدما تحولت الصين من شريك تجاري واعد إلى منافس شرس يهدد الصناعات الأساسية للقارة بما فيها السيارات والأدوية. ومع اتساع العجز التجاري بين الكتلتين الاقتصاديتين وتراجع الصادرات الأوروبية، تتعالى التحذيرات من خطر استراتيجي قد يضعف مكانة أوروبا الصناعية إذا لم تُتخذ خطوات عاجلة وحاسمة.
وحذّر تقرير صادر عن مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار (مركز أبحاث وسياسيات مستقل، يتخذ من واشنطن مقراً له) في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2025 موجّه إلى المفوضية الأوروبية من التهديد المتزايد الذي تمثّله الصين للصناعة الأوروبية. وأوضح التقرير أن تراجع القدرة التنافسية الأوروبية لم يعد قضية اقتصادية فحسب، بل أصبح يحمل بعداً جيوسياسياً خطيراً. وأشار إلى أن ضعف مقومات الابتكار في القارة يزيد من هشاشتها أمام المنافس الاستراتيجي للغرب، الصين، لافتاً إلى أن الشركات الأوروبية الكبرى باتت متأخرة عن منافسيها الصينية في قطاعات حيوية مثل السيارات ومعدات الاتصالات، وهو ما يضعف الأمن الاقتصادي طويل الأمد لأوروبا.
وأكد التقرير أن قانون الابتكار الأوروبي، رغم أنه حدّد بشكل صحيح عدداً من العقبات مثل البيئة التنظيمية المعقدة، وصعوبة الوصول إلى رأس المال، وضعف الدعم للمشاريع في مراحلها المتأخرة، إلا أنه ركّز بشكل ضيق على منظومة الشركات الناشئة. واعتبر أن هذا التركيز المحدود يحجب الرؤية عن القضايا الهيكلية الأعمق التي تقوّض القدرة الابتكارية لأوروبا، وهو ما يجعل المعالجات الحالية غير كافية لتمكين القارة من مواجهة المنافسة العالمية أو التصدي للاختلالات الاستراتيجية الناجمة عن التقدّم السريع للصين المدعومة بسياسات حكومية قوية.
العجز التجاري
وحذّر تقرير آخر أصدرته الخدمة البحثية للبرلمان الأوروبي في نشرتها الاقتصادية ربع السنوية (الربع الثالث من 2025) في 22 سبتمبر/أيلول 2025 من اتساع العجز التجاري للاتحاد الأوروبي مع الصين، مشيراً إلى أن هذا العجز تفاقم بفعل الزيادة الحادة في الواردات وتراجع الصادرات الأوروبية إلى السوق الصينية. وأوضح أن هذه التطورات تأتي ضمن اتجاه أوسع لتباعد موازين التجارة الخارجية، حيث يواصل الاتحاد تحقيق فائض مع الولايات المتحدة مقابل عجز متزايد مع الصين.
وفي التجارة، أبرز التقرير أن العجز مع الصين يتعمّق، إذ ترتفع الواردات بمعدلات مضاعفة بسبب انخفاض أسعار السلع والطلب القوي من الصناعة الأوروبية، إضافة إلى اتجاهات هيكلية طويلة الأمد، في حين استمرت الصادرات الأوروبية نحو الصين في الانخفاض. وكشف التقرير بلوغ العجز التجاري للاتحاد الأوروبي مع الصين مستوى قياسياً قدر بـ 305.8 مليارات يورو في عام 2024.
كما أشار إلى أن الرسوم الجمركية الأميركية على الصين يُرجّح أن تعجّل هذه الاتجاهات، مع تقديرات بأن إعادة توجيه الصادرات الصينية قد ترفع واردات منطقة اليورو بنسبة تتراوح بين 7% إلى 10% بحلول 2026، الأمر الذي سيزيد من اختلالات التجارة وإن كان من شأنه أن يخفف التضخم بشكل طفيف، وفق ما ورد في القسم المخصص للتضخم. ولفت التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي بدأ بالفعل اعتماد إجراءات لمكافحة الإغراق الصيني. وخلص إلى أن مسارات تجارة السلع الأوروبية مع الشريكين الرئيسيين، الولايات المتحدة والصين باتت متباينة بوضوح، فالفائض مع واشنطن في نمو مستمر، بينما يتسع العجز مع بكين بشكل حاد، بما يكشف في الوقت نفسه عن فرص وعن نقاط ضعف في الوضع التجاري الخارجي للاتحاد.
وسجّل التقرير في قسم الناتج المحلي أن آفاق الصناعة الأوروبية تواجه رياحا معاكسة قوية قادمة من الولايات المتحدة والصين، وذلك في ظل مؤشرات حالية ضعيفة نسبيا واستقرار التضخم بالقرب من هدف البنك المركزي الأوروبي.
إعادة التوزان
ومنذ مطلع الألفية، ينظر الاتحاد الأوروبي إلى الصين كسوق رئيسية لسلعه المصنعة عالية القيمة، غير أن الميزان تبدّل سريعا مع اتساع العجز التجاري، واعتبرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في ختام القمة الـ 25 بين الاتحاد الأوروبي والصين في 24 يوليو/تموز 2025 أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين بلغت "نقطة انعطاف"، مؤكّدة الحاجة إلى إعادة توازن يقوم على الإنصاف والمعاملة بالمثل. وطلبت بروكسل بعد الاجتماع "بإحراز تقدّم ملموس في قضايا النفاذ إلى السوق الصينية (مثل اللحوم ومستحضرات التجميل والأدوية)، ووقف إجراءات الدفاع التجاري الانتقامية ضد الصادرات الأوروبية، كما نبّهت إلى الأثر السلبي لقيود التصدير الصينية على العناصر الأرضية النادرة والمغناطيسات الدائمة ودعت إلى رفعها، بالتوازي مع اتفاق على بيان مشترك بشأن المناخ.
في المقابل، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ قادة الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ "القرار الاستراتيجي الصحيح"، وحثّ على التعامل السليم مع الخلافات والاحتكاكات وتغليب الاستقرار واليقين في العلاقات، مع تأكيد مطالبته باحترام مسار الصين ومصالحها الأساسية.
الحل في الرسوم
هذه النتائج لم تترجم فيما بعد على الأرض، إذ تحرّكت المفوضية الأوروبية بسلسلة إجراءات تجارية حديثة ضد الواردات "غير العادلة" من الصين، لتعلن في 23 سبتمبر/أيلول 2025 عن فرض رسوم نهائية لمكافحة الإغراق على واردات حمض "الغليوكسيليك" (حمض عضوي وسيط يستخدم في الصناعات الدوائية والعطور والكيماويات المتخصصة) القادمة من الصين تتراوح بين 29.2% و124.9%، وفي 6 أغسطس/آب 2025 فرضت رسوم لمكافحة الإغراق على واردات ورق الديكور القادمة من الصين بنسب بين 26.4% و26.9%.
وفي 28 يوليو/تموز 2025 فرضت رسوماً لمكافحة الإغراق على واردات راتنجات الإيبوكسي (تُستخدم في المواد اللاصقة والطلاءات والمركّبات والأجهزة الكهربائية) المستوردة من الصين بنسب ما بين 17.3% إلى 33%، في مسعى لحماية الصناعة الأوروبية من "ممارسات تسعيرية غير عادلة".
وأعلنت المفوضية الأوروبية، في 24 يناير/كانون الثاني 2025 عن تمديد الرسوم المفروضة على واردات الدراجات الكهربائية القادمة من الصين، لخمسة أعوام إضافية، وتشمل رسوما لمكافحة الإغراق بنطاق يتراوح ما بين 10.3% إلى 70.1% ورسوما لمكافحة الدعم بنطاق 3.9% إلى 17.2%، وأوضحت أنّ الاستمرار بهذه الإجراءات ضروريّ لصون استدامة قطاع الدراجات الكهربائية في الاتحاد الأوروبي ودعمه على المدى الطويل.
قيود وتسييس
واجتمعت أورسولا فون ديرلاين مع رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ في 24 سبتمبر/أيلول 2025 في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك في ظرف حساس يطغى عليه التوتر التجاري بين الجانبين. وأكد لي تشيانغ خلال اللقاء أن بلاده "تأمل أن يلتزم الاتحاد الأوروبي بفتح الأسواق والتعامل بشفافية، وتعزيز التعاون الثنائي"، مضيفا أن على الجانبين "تجنّب تسييس القضايا الاقتصادية والتجارية أو استخدامها كأدوات ضغط"، وأوضح أن الصين تعتبر التعاون مع الاتحاد الأوروبي خياراً استراتيجياً يخدم الاستقرار العالمي في ظل التوتر التجاري المتصاعد.
بدورها، شدّدت فون ديرلاين على أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يحمل "مخاوف جدية تتعلق بالقيود الصينية على الصادرات، وصعوبة وصول الشركات الأوروبية إلى السوق الصيني"، بالإضافة إلى فرط الطاقة الإنتاجية الذي يهدد الصناعة الأوروبية، وأضافت أن الاتحاد "يريد أن يرى خطوات ملموسة على أرض الواقع، لأن الوقت قد حان للانتقال من الأقوال إلى الأفعال". كما أوضحت أن أوروبا منفتحة على الحوار والتعاون مع الصين، لكنها في الوقت نفسه "لن تتردد في اتخاذ ما يلزم لحماية صناعاتها إذا ثبت وجود ممارسات غير عادلة".
أمام هذا المشهد، تبدو العلاقة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والصين عند منعطف واضح، إذ تُظهر الوقائع أن العلاقة الاقتصادية بين الطرفين تمر بمرحلة إعادة توازن، في انتظار اتضاح المسارات وفق ما تسفر عنه المفاوضات والقضايا لدى منظمة التجارة العالمية.
