
عربي
عندما تتجوّل في عواصم ومدنٍ عربية كبرى، بعينَي السائح المصحوب بأصدقاءَ ومعارف، وتكون مُستضافاً في فندقٍ محترم، فإنك لا بدّ ستُعجَب بحداثةٍ وحيويّةٍ باديتَيْن في حركة الناس في الشوارع والمقاهي والميادين والأسواق والمطاعم. وعندما تلحظ شباباً وشابّاتٍ على أبواب جامعاتهم ومدارسهم، وترى تلويناً عريضاً في أردية الناس، وتشاهد عيناك سياراتٍ حديثةً يقودُها أصحابُها باسمين، سيغشاك، في هذه الغضون، انطباعٌ أن ثمّة مقادير طيّبة من الدّعة العامة في البلد، وأن الأمور بخير، وإنْ تأتي أحاديثُ تسمعُها على صعوباتٍ اقتصاديةٍ تقليدية. ولو تمرّ في أريافٍ وبلداتٍ وطرقاتٍ خارج المدن والعواصم، لشيءٍ من التسرية عن نفسك، وتنويع مشاهداتك، لن يغادرَك ذلك الانطباع. ...
لا تلتقط عيونُ السوّاح والزوّار والعابرين شعوراً بقلة الرضى، لدى ساكنة الهوامش والأطراف، بل ولدى عمومٍ واسعٍ من ناس البلد في المدن أيضاً، الشعور الذي يحدُثُ أن يصير ضيقاً، تبرّماً، أو غضباً. والبديهيّ، المنسيُّ غالباً، أن المجموع العام لأهل أي بلدٍ لا يعدّون عيّنةً ممثّلةً له من يُشيعون إحساساً بحسُن الأحوال ممن نأنس إليهم، نحن المستضافين في هذا البلد العربي وذاك، ونُجالسهم ونتاسرَر معهم، ومن نشتري منهم ما نشتريه من هدايا تقليديةٍ، نُفاصِل في أسعارها، وفي ظنّنا أننا شُطّارٌ في هذا.
لعلّ المغرب نموذج النماذج العربية للكلام أعلاه، أقلّه كما تدلُّ عليه الاحتجاجات الشعبية، الشبابية وغيرها، المتكرّرة بين فترةٍ وأخرى. تعرّفنا تظاهرات شبّان "جيل زد" الجارية، المتوزّعة في معظم البلد، ومحدودة الأعداد على كل حال، على وضعٍ سيّئٍ في الخدمات الصحية العامة، وعلى تعليمٍ غير جيّد، وعلى فسادٍ يُرمى به نافذون في السلطة. نسمع أن بناء مستشفىً في هذه الناحية أو تلك يأخُذ سنواتٍ على الورق فيما يجري الاستعجال بتهيئة ملعبٍ لكرة القدم. ولكن الحكومة توضح أنها رفعت موازنة القطاع الصحي في البلاد في العام الماضي إلى الضّعف، وأنها زادت أعداد العاملين والموظّفين فيه، إلّا أن النقص باقٍ في الكوادر والموارد البشرية. ... ينشط شبّان غاضبون في مدنٍ كبرى وصغرى، في نواحٍ وأرياف، في احتجاجاتٍ على الحكومة، يتّضح فيها انعدام الثقة بالأحزاب والنقابات والبرلمان ومختلف الكينونات التمثيليّة الوسيطة بين المجتمع والسلطة، فضلاً عن رفضها أداء الحكومة التي يؤشّر المتظاهرون إلى فسادٍ في أحزابٍ فيها. ويتوجّه شبّانٌ من "زد" إلى الملك، قناعةً بسلطته حاكماً وحكماً، ورفضاً أهليّةَ غيره، وهذا حدثٌ نادر في تاريخ الاحتجاجات الشعبية في المغرب، على ما أفاد عارفون.
إذن؛ لنا أن نقول إنّ المشهد العريض في المغرب الجميل ليس هو المؤطَّر المحدود أمام عيون الزوّار والسياح. ولنا أيضاً أن نقول إنّ الغضب وحدَه ليس كافياً لتظهير أصحابه قوّة اقتراحٍ ومعارضةٍ جديدة الشكل، وإن الحماس لحراكٍ شبابيٍّ يتوسّل تطبيقات التواصل الاجتماعي الحديثة للتشبيك فيما بين أهله وصنّاعه لا يجيز إغماض العيون عن حوادث تخريبٍ واعتداءٍ على أملاكٍ عامةٍ وخاصّةٍ ارتكبها بعض الشباب، المندسّين أو غير المندسّين، الراديكاليين المحبطين اليائسين أو البلطجية والزعران (لا أعرف)، يجب أن تُدان، وأن يُشهر ناس الحراك رفضَهم لها. وقد يجد بعضُنا سبباً مضافاً للحماس مع هؤلاء الشباب الساخطين، الإصلاحيين غير المضادّين للنظام السياسي في بلدهم، رفضَهم التجاوب مع دعواتٍ إلى الحوار أعلنت عنها الحكومة، رئيسُها ووزراء فيها، غير مرّةٍ منذ أسبوع، لكن ما صار ملحوظاً من انحسارٍ في التظاهرات، واتّساع التخريب في أثنائها، وما عوين منذ اليوم الأول عن فقدانها عُمقاً جماهيريّاً يوسّع دائرة المحتجّين ويضمّ إليهم فئاتٍ من المجتمع متضرّرة حكماً من سوء في القطاعَين الصحي والتعليمي، يفرضان أن يراجع شباب الحراك، الذي لا يملك واحدُنا غير مناصرة أهدافه وأنفاسِه، أداءهم العام وتطويره باجتراح صيغٍ أخرى، تتوازى ربما مع قنواتٍ ومساراتٍ نشطةٍ أخرى، ربما منها، وأهل مكّة أدرى بشعابها من قبلُ ومن بعد، محاورة أهل اختصاصٍ وخبرةٍ في القطاعات المستهدفة بالنقد والانتقاد.
المشهد هناك، في المغرب، واحدٌ من مقاطع غضب الشباب العربي بشأن حقوقٍ خدميةٍ واجتماعيةٍ واقتصادية. ومؤسفٌ في العموم ما قوبل به من تشدّدٍ أمنيّ لم تبد حاجةٌ إليه بالمدى الذي شوهد به. ولن يكون مستغرباً أن تُعاين مقاطعُ أخرى من مثل هذا الغضب في غير بلدٍ عربي، فأسباب الاحتجاج ماثلةٌ، و"ديسكورد" موجودٌ في كل مكان.
