
عربي
قبل أيّام، في سهرة عشاء لدى أصدقاء سوريين في القاهرة، التقيت سيّدةً شابّةً خرجت من سورية منذ أقل من شهرَين بعد معاناة طويلة للوصول إلى خطيبها الذي يعيش هنا منذ سنوات. كانت الوحيدة في الجمع الموجود القادمة للتو من هناك. كان هذا واضحا عليها جّداً، فهي لم تتوقّف عن الحديث طوال السهرة عمّا حدث (ويحدُث)، كل حديث تداولناه خارجاً عن الشأن السوري كانت تعيده بتلقائية لافتة إلى مكانه الصحيح: سورية، التي تتحدّث عنها كما لو أننا لا نعرفها، أو كما لو أن غيابنا الجسدي الطويل عنها جعلنا منقطعين معرفياً عمّ يحدث فيها. كنّا جميعاً منصتين لها، كما لو أن تواطؤاً حدث بيننا من دون اتفاق. كانت تحتاج من يسمعها، وكنّا ننصت كما لو أننا نسمع ما حدث (ويحدُث) هناك للمرّة الأولى. لم يكن الحديث مزعجاً لأحد منّا على الإطلاق، كنّا نحتاج إلى قادم من هناك يؤكّد لنا ما سمعنا (ونسمعه) سابقاً، وحالياً، عن الوضع السوري في الداخل. كما لو أن هذا القادم المتحدّث هو الشاهد المُؤكِّد للأحداث التي جعلتنا نتخذ مواقف جذرية سابقاً وحالياً. في الوقت نفسه، بدت السيدة في حديثها المتواصل كما لو أنها تبحث عن شهودٍ ترى فيهم مصداقيةً معيّنةً يمكنهم أن يتبنّوا حديثها، وربّما يتناقلونه، كي لا يبقى مجرّد قصة شخصية ترويها هي فقط.
ذكّرتني هذه السيدة بنفسي أول خروجي من سورية إلى مصر. لم أكن قادرةً على التوقّف عن الحديث عن سورية أمام أيّ شخص، وحين أتوقّف عن الحديث أبكي أمام الجميع. أنا وهي، وكل من هم مثلنا، نعاني ممّا يسمّى في علم النفس "الصدمة الحديثة" (acute trauma)، وهي تصيب الأشخاص الناجين من تجارب عنيفة، فيعيدون سردها قسرياً، أي بشكل لا إرادي، كما لو أن العقل يبحث عن معنىً للتجارب التي عاشها عبر سردها وتكرارها مع كل أشخاص جدد يقابلهم صاحب التجربة الناجي من الحدث. وكأنّ في إعادة السرد إعادة لعيش التجربة والصدمة، في محاولة من العقل الباطن للتحكّم بها عبر مسك خيوطها كل مرّة، وإعادة سيرتها ظاهراً كي لا تبقى هي المتحكّمة باطناً بالشخص. هذه كلّها آليات دفاع لا واعية يصنعها العقل الباطن للتعافي. ستحتاج هذه السيدة وقتاً حتى تتمكّن فيه من الانفصال عن التجربة، واستئناف حياتها بشكل شبه عادي، هذا الوقت يمكن تسميته بفترة التعافي والدخول في مرحلة النجاة، إن كان في سورية من يمكن وصفه بالناجي.
كثر من علماء النفس تحدّثوا عن الناجي من الصدمة، وعن ضرورة الحديث عما عاشه، ليس للشفاء منها فقط، بل أيضاً كي لا يطويها النسيان، كي تتحوّل جزءاً من الذاكرة الجمعية لمجتمع الصدمة، فهو شاهدٌ مباشرٌ وأصيلٌ يصبح من خلال سرده للحدث مرّات عديدة جزءاً من تاريخ الحدث بدلاً من أن يكون على هامشه، ويصبح المستمعون له شهوداً بدائل، يمكنهم أن يحلّوا محلّه في تاريخ الحدث، أو يثبتوا وجوده الحقيقي لا المروي فقط. من هنا يصبح تناول الحروب والصدمات الكبرى الشخصية والفردية في الفنّ والأدب ضرورةً ملحّة كي لا يطوي الزمن تلك الأحداث، ويحيلها هي وضحاياها إلى النسيان.
كانت السيدة السورية في حديثها المتواصل تعرف ضمنياً أننا لسنا في غيبوبة عما يحصل في سورية، وأننا متابعون يوميون لما يحدث، فكلّنا تقريباً نعمل في مجالاتٍ تتطلّب منّا المتابعة اليومية والمباشرة، لكنّها تعرف أيضاً أن الزمن الذي عشناه بعيداً من سورية شكّل مسافةً كبيرةً بيننا وبينها، مسافة قد يكون فيها كثير من الحياد، وربّما الموضوعية التي يسمّيها بعضهم "لا مبالاةً"؛ بينما هي، الخارجة للتو من الجحيم، لا تملك هذا الترف ولا تتمكّن من فهمه، هي منحازة لما تراه الحقيقة، وتريدنا أن ننحاز مثلها إليها في لحظة سردها المتواصلة، والحقيقة بالنسبة إليها ليست سوى انحياز لمعنى الكارثة وفحواها، ومسّها غير المنقطع، منذ 14 عاماً، بكل السوريين، مهما ادّعى بعضهم غير ذلك.

أخبار ذات صلة.

إيقاف حرب نتنياهو
العربي الجديد
منذ 14 دقيقة