المطبخ كـ “متراس”: نساء اليمن يحوّلن المشاريع المنزلية إلى خط دفاع ضد الجوع والفقر
أهلي
منذ 5 أيام
مشاركة

يمن مونيتور/ وحدة التقارير/ من بشرى عبدالرحمن

في قلب أسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم، وحيث خنقت الحرب والانهيار الاقتصادي سبل العيش، قررت المرأة اليمنية أن تتخذ من مطبخها متراساً في معركتها ضد الجوع والفقر. فمن “كوّات مطابخها الضيّقة” لم يتبقَ لهن سوى الإبداع سلاحاً؛ ليحوّلن رائحة الخبز الدافئ ليس فقط إلى وجبة، بل إلى مصدر دخل ثابت في مجتمع بات فيه غياب المعيل القاعدة لا الاستثناء.

بخطواتٍ مثقلة بالهموم لكنها مليئة بالإصرار، استثمرت ربّات بيوت ونازحات مهاراتهن البسيطة في الطهي والحرف لإنشاء مشاريع متناهية الصغر، تُقاوم ثقافة العيب من جهة، وتوفر لقمة العيش الكريمة لأسرهن من جهة أخرى. هذه ليست مجرد قصص عن إعداد الطعام؛ بل شهادات حية على قوة الإرادة النسوية التي تنمو في قلب الخراب، وتترجم الإرادة إلى ريادة في أحلك الظروف.

“يمن مونيتور” تفتح صفحاتها على قصص كفاح نساء اليمن اللواتي حوّلن المطبخ إلى “معمل أمل” ونافذة على الاستقلال الكرامة.

 

أم ريما: الكفاح السري وتحدي “ثقافة العيب”

تُمثل قصة أم ريما، ربة البيت، مثالاً حياً للكفاح تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. قرّرت أم ريما بيع “اللحوح” من منزلها سراً لتحدّي الوضع الاقتصادي القاسي. وهي تفعل ذلك رغم أنها في بيئةٍ مجتمعية لا تسمح لها بالعمل، خشية “ثقافة العيب” وخوفاً من تنمّر المحيطين وعقاب عائلتها.

تقول لـ (يمن مونيتور): “قررتُ أن أصنع اللحوح في مطبخي وأبيعه سرًا دون معرفة عائلتي حتى لا أدخل في مشاجراتٍ معهم. رغم ذلك، الكثير ممن يأتون للشراء يبدون ارتياحهم لجودة ما أقوم بصنعه، ويمتدحون مذاقه.”

لم تستسلم أم ريما لهذا الخناق المزدوج (الفقر والقيود). بل استطاعت بفضل هذا العمل أن تبني غرفتين لأطفالها، مؤكدة: “رغم كل ما في الواقع من قسوة، إلا أن الاعتماد على النفس فضيلة، خاصة في ظل انهيار سبل الرزق التقليدية.”

سامية: فاتورة الكهرباء تقتل أحلام المثلجات

أمام تحدي إعالة أسرتها بمفردها بعد رحيل زوجها قبل ثلاث سنوات، وجدت سامية صالح نفسها مضطرة للبحث عن مصدر رزق لأولادها. لم تفلح في الحصول على عمل رسمي، فقررت البدء بمشروع منزلي متناهي الصغر، وهو صناعة المثلجات بنكهات مختلفة، تحفظها في ثلاجة صغيرة وتوزعها على المحال القريبة.

تقول سامية لـ”يمن مونيتور”: “الحمد لله المشروع يساعدني قليلًا، لكن الدخل يتراوح بين ستة آلاف وعشرة آلاف ريال [الدولار=535 ريالاً] فقط، وهو لا يغطي احتياجات البيت من طعام وشراب ومدارس.”

التحدي الأكبر لسامية ليس فقط في ضآلة العائد، بل في العقبات الهيكلية التي تقتل هذه المبادرات، وأبرزها فاتورة الكهرباء التي تثقل كاهلها. ففي ظل التقنين القاسي للطاقة والاعتماد المكلف على المولدات التجارية، يرتفع سعر تكلفة الإنتاج بشكل غير متناسب، مما يقلل هامش الربح لمثل هذه المشاريع التي تعتمد على التبريد بشكل أساسي.

وتضيف بحسرة: “أحيانًا أتوقف عن الإنتاج لأيام كاملة، فقط لأنني لا أستطيع شراء المواد الأساسية مثل السكر والنكهات، ناهيك عن تكلفة تشغيل الثلاجة.”

تختصر قصة سامية معاناة الأسر اليمنية التي تواجه صعوبات التمويل وارتفاع أسعار الطاقة، وسط بحثها عن بصيص أمل في حياة مثقلة بالصعوبات الاقتصادية.

 

أرقام تؤكد الضرورة: تحول ديموغرافي واقتصادي

أجبرت الحرب المستمرة منذ أكثر من تسعة أعوام في اليمن آلاف النساء على دخول سوق العمل أو إنشاء مشروعات منزلية لتأمين احتياجات أسرهن، في ظل انقطاع الرواتب وتدهور الاقتصاد.

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نسبة الأسر التي تعولها نساء في تزايد مستمر، خاصة مع ارتفاع ضحايا الحرب وتفاقم الهجرة القسرية. هذا التحول الديموغرافي الاقتصادي دفع بنساء يعتمدن على أنشطة مدرة للدخل، حيث لا يتجاوز الدخل اليومي لبعضهن 20–30 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، لا سيما مع وصول معدلات التضخم إلى مستويات قياسية وتراجع القدرة الشرائية للناس. هذه الأنشطة لم تعد خياراً بل خط دفاع أخير ضد الجوع. وتسلط الضوء على الفجوة الهائلة في برامج التمويل متناهي الصغر التي تحتاجها هذه الشريحة.

أمة الرزاق: ريادة الأعمال كمسؤولية عائلية

تُعد قصة أمة الرزاق علي نموذجاً للبطولة الصامتة. فبعد فقدانها والديها وأختها، وجدت نفسها فجأة أمام مسؤولية إعالة شقيقيها الصغيرين. “لم يكن الأمر سهلًا أبدًا، لكنني لم أستسلم حاولت أن أبحث عن وسيلةٍ أؤمّن بها احتياجاتنا الأساسية.” تقول أمة الرزاق.

بدأت رحلتها من الصناعات المنزلية البسيطة؛ الحلوى والملابس والمشغولات اليدوية، التي تجد طريقها للتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في معارض محلية، أو تباع في محلات صنعاء.

وقالت لـ”يمن مونيتور”: “شاركت في مهرجان صيف صنعاء، وهناك لمستُ تفاعل الناس وإقبالهم على ما أقدمه.” ذلك التفاعل منحها أملاً جديداً، وأكد لها أن مواصلة الطريق رغم قسوة الظروف ليس خيارًا فحسب، بل واجب تجاه نفسها وإخوتها.

هذا الإقبال يؤكد على أن المستهلك اليمني بدأ يتجه نحو دعم المنتجات المحلية المصنوعة منزلياً، إما لجودتها أو لكونها أرخص سعراً من المستورد، مما يوفر سوقاً واعدة لهذه المشاريع في حال توفرت بيئة داعمة للنمو.

 

البحث عن بدائل للعيش والتسويق الرقمي

دفعت الظروف الاقتصادية الخانقة عدداً متزايداً من النساء في اليمن إلى البحث عن بدائل للعيش، ووجدت كثيرات في إنشاء مشروعات صغيرة داخل المنازل حلاً واقعياً، بدءاً من إعداد الأطعمة وبيعها، وصولاً إلى استغلال منصات التواصل الاجتماعي كنافذة للتسويق وتجاوز القيود المجتمعية.

يقول سمير أحمد، ناشط اجتماعي لـ”يمن مونيتور”: “بعض النساء استطعن تحويل هذه الجهود البسيطة إلى مصدر دخل ثابت، يساعدهن على إعالة أسرهن. غياب الفرص الرسمية وانهيار السوق فرض عليهن التوجه المتزايد نحو العمل المنزلي والمبادرات الفردية، ولو بجهود بسيطة.”

لقد تحولت منصات مثل واتساب وإنستجرام إلى أسواق افتراضية سرية، مكنت المرأة من عرض منتجاتها (سواء الأطعمة أو الحرف) دون الحاجة للظهور العلني في الأسواق التقليدية، مما ساهم في تخفيف القيود المجتمعية المفروضة على عمل النساء في المدن الكبرى، وبات التسويق الرقمي عصب هذه المشاريع.

 

تنوع المشاريع: من الدواجن إلى جسر ثقافي

تنوعت المشاريع لتشمل قطاعات مختلفة، مما يعكس مرونة المرأة اليمنية بين هذه المشاريع مشروع وردة الخولاني التي اختارت أن تواجه الحياة بطريقتها الخاصة من سطح بيتها وحوشه في صنعاء القديمة، حيث أنشأت مشروعاً لتربية الدجاج البلدي والأرانب، قائلة: “الناس هنا يحبون البيض البلدي ثم صرت أوفر مصدر دخل إضافي بجانب البيض.”

وتضيف وردة لـ”يمن مونيتور”: “بدأت بعدد بسيط من الدجاج البلدي، ومع الأيام صار عندي إنتاج من البيض. لكن لم يقتصر الأمر على الدجاج قررت إدخال الأرانب ضمن المشروع، إذ تجد لها زبائن، خاصة العجائز في باب اليمن، فصرت أوفر مصدر دخل إضافي بجانب البيض.”

أما “زينب حجاب”، وهي شابة من حجة تعيش في صنعاء، فقد وجدت في وصفات أمها وجدتها مثل اللحوح والفتة والسلتة مفتاحاً لمشروع غير متوقع.

قالت لـ”يمن مونيتور”: “بدأت أطبخ لأهلي وجيراني، فأعجبتهم الأكلات وراحوا ينصحون بها، وشيئاً فشيئاً صار عندي زبائن بشكلٍ يومي.”

توسع مشروعها عبر الواتساب لتجد زبائن من خارج الحي. ترى زينب أن مشروعها يتجاوز فكرة الطبخ المنزلي: “أصبح جسراً للتبادل الثقافي بين المحافظات. قدّمت لأهل صنعاء أكلات حجة، وتعلّمت منهم وصفات من مدن أخرى.”

المشروع الصغير لم يغيّر حياتها كلياً، لكنه خفف من وطأة الأعباء اليومية. “الحمد لله صار عندي دخل يغطي بعض مصاريف البيت، والأجمل أن منتجاتي طبيعية، والناس يثقون فيها.”

 

أم صالح، تغيير جذري

“أم صالح” من محافظة المحويت، وهي أم لأربعة أطفال وتعيش في صنعاء، فقد حولت فكرة إعداد اللحوح المحويتي إلى مشروع يغير حياتها جذرياً.

تقول لـ”يمن مونيتور” بفخر: “بعد سنوات من الاجتهاد استطعت أن أوفر مبلغاً مكّنني من شراء قطعة أرض صغيرة وبناء بيت يأوي أسرتي… أصبحت أعيل أسرتي بالكامل وأشعر أني حافظت على كرامتي وكرامة أولادي.”

تشير إلى بدايتها: “في البداية خبزته في البيت وكنت أبيعه للجيران. ومع تزايد الإقبال قررت أن أوسع النشاط، فكرت أن أوزعه على المحلات والمطاعم الصغيرة في صنعاء، والحمد لله لقي نجاحاً كبيراً وأصبح لدي طلب يومي.”

 

“كوارع أم محمد”.. علامة جودة في حي شعبي

وفي حي شعبي آخر بصنعاء، لم يكن يخطر ببال “أم محمد” أن وصفة ورثتها عن والدتها ستفتح لها باب رزق واسع. من مطبخها الصغير بدأت رحلتها، حيث كانت تجهز الكوارع وتبيعها للجيران. ومع الوقت، كبر الطلب وتوسع ليصل عبر الهاتف ووسائل التواصل. “أول زبائني كانوا من الحارة، وبعدها صاروا يتواصلوا معي عبر الواتساب ويطلبوا بشكل دائم.”

لم يتوقف الأمر عند الجيران فقط، بل امتد إلى أصحاب المطاعم القريبة الذين صاروا يقصدونها مباشرة لتأمين ما يحتاجونه من الكوارع الجاهزة. “الحمد لله وفرت من هذا المشروع دخل أقدر أعيل به أسرتي وأغطي احتياجاتهم.”

اليوم أصبح اسم “كوارع أم محمد” علامة يعرفها الكثير، ليس فقط لجودتها، بل لتميزها بنكهة منزلية لا تُنسى.

“مطبق العشار” وموروث “أم هناء”

ووجدت “أم هناء”، ربة بيت، في مطبخها الصغير باباً للرزق وحفظ التراث. بدأت بطبخ الأكلات الشعبية للجيران، ثم توسع مشروعها عبر الطلبات على الواتساب. “بدأتُ من مطبخي البسيط، والآن لدي زبائن من الحي وخارجه.”

تُعِدّ أم هناء مطبق العشار المحشو بالخضار أو العدس، والمخلوطة التهامية المقرمشة، إضافة إلى كرات البطاطس “كالتكس” مع صلصة البسباس الحمراء والخضراء. ورغم أن هذه الأكلات تعيش في ذاكرة الناس وتربطهم بطفولتهم، إلا أن أم هناء استطاعت من مطبخها البسيط أن تجد لها دخلًا ثابتًا وتحافظ على نكهة من الموروث الشعبي.

سارة وأفراح، حلمهما يكبُر مع كل قطعة كيك

بدأت حكاية الشقيقتين سارة وأفراح من صنعاء بتحويل موهبتهما في إعداد الكيك والمعجنات إلى مصدر دخل حقيقي يغطي تكاليف الدراسة ومصروفات البيت. صور منتجاتهما على واتساب ووسائل التواصل الاجتماعي جعلت زبائن من خارج الحي يطلبون ما تصنعان.

تضيف سارة لـ”يمن مونيتور”: “نشعر بالفخر أننا استطعنا تحويل موهبتنا إلى عمل يعكس طموح الفتاة التي تسعى لتطوير ذاتها والاعتماد على نفسها.” أما عن المستقبل، فالأحلام أكبر، وتؤكّدان: “نطمح أن نفتح محلًا صغيراً يحمل اسمنا، يكون وجهة لكل من يبحث عن نكهة منزلية لذيذة وموثوقة.”

بإصرار وإرادة قوية، تصنع الأختان قصة نجاح صغيرة تكبر كل يوم، وتجعلهما قدوة لقريناتهن حتى لا يكن فرائس سهلة للحاجة والعوز، مؤكدة أن الإرادة والعمل الجاد هما الأساس في مواجهة تحديات الحياة.

هذه القصص ليست مجرد حكايات عابرة؛ إنها دليل على أن الاستجابة الإنسانية الأقوى في اليمن هي استجابة ذاتية، تقودها المرأة لتأمين صمود أسرتها. وبينما ينتظر المجتمع الدولي حلولاً سياسية، تبقى مبادرات المطبخ المنزلي هي الضمانة الوحيدة لآلاف الأسر في مواجهة شبح الجوع المتفاقم، وتستحق هذه الريادة الدعم والتمكين كبديل مستدام للإغاثة الطارئة.

 

 

The post المطبخ كـ “متراس”: نساء اليمن يحوّلن المشاريع المنزلية إلى خط دفاع ضد الجوع والفقر appeared first on يمن مونيتور.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية