
عربي
فجر 24 سبتمبر/أيلول 2025، أُوقف الباحث والصحافي الاستقصائي المصري إسماعيل الإسكندراني في كمين أمني بمحافظة مطروح، أثناء عودته من سيوة غربي مصر، فيما لم يكن الأمر مفاجئاً لمن يعرف تاريخه مع السلطة.
صدر أمر الضبط والإحضار بحق الباحث المصري في القضية رقم 6469 لسنة 2025، مساء الأربعاء الماضي، عن نيابة أمن الدولة العليا بناءً على تحريات الأمن الوطني، وحبسه لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيقات. اقتيد إسماعيل الإسكندراني إلى مقر الأمن الوطني بالعباسية، ثم عُرض على النيابة في القاهرة حيث واجه سلسلة من الاتهامات المعلبة مسبقاً: "الانضمام إلى جماعة إرهابية" و"نشر أخبار كاذبة" و"استخدام موقع إلكتروني للترويج لأفكار إرهابية"، وفق المحامي الحقوقي البارز، خالد علي، الذي أشار في بيان، إلى أن النيابة واجهت الإسكندراني بـ18 منشوراً من صفحته على منصة فيسبوك. وأضاف علي أن الإسكندراني لم ينكر أن الصفحة تخصه، بل أكد أنه كتب كل كلمة فيها، لكنه شدّد على أنها تعبّر عن آرائه وتحليلاته الشخصية ولا علاقة لها بالشائعات أو الأخبار المضللة.
مسلسل من الاعتقالات
هذه ليست المرة الأولى التي يجد فيها إسماعيل الإسكندراني نفسه خلف القضبان. فقد بدأ مسلسل اعتقالاته في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، عندما عاد من مهمة بحثية خارجية ليُلقى القبض عليه فور وصوله إلى مطار الغردقة. احتُجز طويلاً في الحبس الاحتياطي قبل أن تُحال قضيته إلى محكمة عسكرية. في مايو/أيار 2018، صدر الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، قبل أن تخفف محكمة النقض العسكرية العقوبة إلى سبع سنوات في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ليخرج في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه بعد ما يقرب من سبع سنوات قضاها في السجن.
الإسكندراني أحد أبرز الأصوات البحثية التي تناولت قضايا شديدة الحساسية مثل شبه جزيرة سيناء
كان الإفراج عنه حينها محط اهتمام المنظمات الحقوقية الدولية، التي وصفت محاكمته بأنها جائرة ومبنية على تهم ملفقة. لكن سنوات الحرية القليلة لم تدم طويلاً، فقد عاد الرجل مرة أخرى إلى الدائرة نفسها التي حاول الإفلات منها. وُلد إسماعيل الإسكندراني في الإسكندرية عام 1983، واهتم منذ سنوات دراسته الأولى بعلم الاجتماع السياسي، ليصبح لاحقاً أحد أبرز الأصوات البحثية التي تناولت قضايا شديدة الحساسية مثل شبه جزيرة سيناء المصرية. هناك، حيث تختلط حياة السكان المحليين بتعقيدات العنف المسلح والسياسات الأمنية، وجد الإسكندراني مادته البحثية الأهم. عمل باحثاً في المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ثم زميلاً في مبادرة الإصلاح العربي بباريس، وحصل عام 2015 على زمالة الصحافي العربي الزائر في برنامج الشرق الأوسط بمركز وودرو ويلسون في واشنطن. نشر إسماعيل الإسكندراني أبحاثه وتحليلاته في صحف عربية مستقلة مثل السفير والمدن (لبنان)، كما كتب في دوريات أكاديمية دولية مثل مجلة الدراسات العربية الأميركية. امتازت أعماله بالتركيز على ديناميكيات العنف في سيناء، وأثر السياسات الأمنية والاقتصادية على الاحتجاجات والهويات المحلية في الجنوب المصري.
ظل الإسكندراني حاضراً دائماً في المؤتمرات الدولية والزمالات البحثية
لم يكن إنتاجه البحثي محط تقدير محلي فقط، بل لفت الأنظار دولياً. ففي عام 2009، فاز بجائزة مقال الشباب حول الديمقراطية من "حركة الشباب العالمية من أجل الديمقراطية" كما حصل على الجائزة الوطنية لنشر التفاهم والاحترام المتبادل من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. في 2014 نال جائزة Open Eye-هاني درويش للمقال المتميز، وهو ما رسخ مكانته بوصفه أحد أبرز الباحثين والصحافيين الاستقصائيين في جيله.
داخل السجون، لم يكن إسماعيل الإسكندراني يواجه القيود القانونية فقط، بل أيضاً تحديات صحية. فهو يعاني من ضيق في التنفس ولا يستطيع النوم إلا باستخدام جهاز تنفس. وفي آخر مثوله أمام النيابة عام 2025، وصل الجهاز إلى مقر التحقيق لكن قناعه (التنفس) ظل محتجزاً لدى الأمن الوطني، ما أثار قلق محاميه حول أوضاعه الصحية، وفق بيان خالد علي، قائد فريق الدفاع عن الإسكندراني، والذي يضم عدداً من أبرز المحامين الحقوقيين في مصر: ماهينور المصري وأسماء نعيم ومحمد رمضان.
استهداف إسماعيل الإسكندراني
منذ حبسه في المرة الأولى وحتى اليوم، كان إسماعيل الإسكندراني تحت عين المنظمات الحقوقية المحلية والدولية. وصفت منظمة PEN International (لندن) قضيته بأنها نموذج لمحاكمات جائرة تستهدف حرية التعبير، فيما اعتبرت تقارير مراكز حقوقية محلية أن استهدافه يعكس تكاليف البحث الحر في قضايا حساسة مثل سيناء والحقوق المدنية. رغم حضوره البارز في الأوساط البحثية والإعلامية، ظل الجانب الشخصي من حياة الإسكندراني بعيداً عن التداول العلني. ما يُعرف عنه أنه نشأ في الإسكندرية، وبدأ حياته مدوناً وكاتباً، قبل أن يكرس نفسه للعمل البحثي والصحافي.
ظل دائماً حاضراً في المؤتمرات الدولية والزمالات البحثية، ومخلصاً لفكرة أن المعرفة والكتابة وسيلتان لمواجهة النسيان والتهميش. لم يكن الإسكندراني مجرد باحث أكاديمي، بل كان شاهداً على تحولات بلد وناقلاً لصوت هوامشه. جمع في عمله بين التحليل العلمي والالتزام الإنساني، وهو ما جعله عرضة للاحتفاء والتقدير من جهة، والاستهداف والملاحقة من جهة أخرى. وبين جدران السجن وصفحات كتبه، ظل وفياً لقناعته بأن الحقيقة – مهما كانت مكلفة – تستحق أن تُروى.
