
عربي
تحتضن العاصمة الدنماركية كوبنهاغن قمة أوروبية موسعة وبالغة الأهمية يومي الأربعاء والخميس، في ظل ظرف جيوسياسي بالغ الدقة تطغى عليه تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتراجع الدعم الأميركي لكييف. وتأتي القمة برعاية الرئاسة الدنماركية الدورية للاتحاد، وبمشاركة قادة الدول الـ27، لتشكل محطة استراتيجية لمراجعة أولويات الدفاع والأمن الأوروبيين، وتعزيز موقف الاتحاد في مواجهة تهديدات متزايدة، أبرزها من روسيا.
وتلي القمة مباشرة جلسات المجموعة السياسية الأوروبية بمشاركة موسعة من قادة الدول المجاورة والشريكة للاتحاد، بما في ذلك بريطانيا وأوكرانيا والدول المرشحة للانضمام، حيث يتجاوز عدد الحضور 40 قائداً، في اجتماع محوري يهدف إلى بحث مستقبل "أمن أوروبا واستقلالها الاستراتيجي"، في ظل شكوك متنامية حول استمرار المظلة الدفاعية الأميركية.
أوروبا القلقة: خطر جديد في الأفق
القمة ليست عادية، فالأحداث التي سبقتها كشفت هشاشة البنية الأمنية الأوروبية، خاصة في شمال القارة. خلال الأسابيع الماضية، تعرّضت الدنمارك والنرويج لهجمات بطائرات مسيّرة استهدفت مطارات عسكرية ومنشآت حساسة، مما أحدث صدمة داخل الأوساط الأمنية والسياسية.
الحكومة الدنماركية وصفت الحادثة بأنها "11 سبتمبر الدنماركي"، وسارعت إلى إعلان حالة تأهب أمني قصوى. وزادت الأجواء توتراً بعد رصد تحليق مقاتلات "إف-35" فوق جزيرة بورنهولم، القريبة من مقرّ انعقاد القمة، في مناورة مفاجئة وصفت بأنها رسالة ردع، وسط صمت رسمي لافت.
قمة في ظل انقسام داخلي
داخل القصر الملكي القديم في كريستيانسبورغ، يسعى القادة الأوروبيون إلى تجاوز انقساماتهم، لكن الواقع أكثر تعقيداً مما يبدو. المجر، بقيادة فيكتور أوربان، تواصل التشكيك في دعم الاتحاد لأوكرانيا، بل وفي سيادتها من الأساس. وقد أثارت تصريحات أوربان الأخيرة، التي وصف فيها أوكرانيا بأنها "دولة غير مستقلة"، موجة غضب في كييف وبروكسل.
في المقابل، تضغط فرنسا وألمانيا لتقوية القدرات الدفاعية الأوروبية، عبر تمويل مشترك للمشتريات العسكرية وتخفيف قيود العجز المالي. وقد اقترحت المفوضية الأوروبية استخدام قروض جماعية لتعزيز الصناعات الدفاعية، على غرار خطة التعافي من جائحة كورونا. لكن دول الجنوب، مثل إيطاليا وإسبانيا، تبدي تردداً في المضي نحو برامج تسلح ضخمة، خوفاً من تبعاتها الاقتصادية، بينما تطالب دول البلطيق وبولندا بالإسراع، نظراً لقربها الجغرافي من "الخطر" الروسي.
حسابات أوروبا الأوكرانية
سيكون الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حاضراً في كوبنهاغن، ليس فقط بصفته قائداً لبلد يخوض حرباً، بل لكونه رمزا للأزمة التي تعيد رسم خرائط الأمن الأوروبي. ورغم انحسار الدعم الأميركي تدريجياً، يتمسّك الاتحاد الأوروبي بمواصلة دعمه لأوكرانيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. ويؤكد الأوروبيون من خلال مشاركة زيلينسكي على رسالة مفادها: "لن نقرّر مصير أوكرانيا في غيابها". لكن واقع الحال يُظهر تراجعاً واضحاً في الدعم العسكري، في ظل تفاقم الانقسامات، وعرقلة قرارات حساسة بسبب الفيتو المجري المتكرر.
أجندة القمة: الدفاع المشترك واستقلال القرار الأمني
تشمل محاور القمة ما يلي:
تعزيز القدرات الدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، استجابة للتهديدات الروسية وازدياد الهجمات السيبرانية والهجينة.
ضمان استمرار الدعم لأوكرانيا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، رغم تراجع الحماس الداخلي في بعض العواصم الأوروبية.
تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية في مجال الأمن والدفاع، ضمن شراكة قائمة مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكن دون التبعية المطلقة له.
انقسامات داخل الاتحاد... ومقترحات لتجاوزها
تنعقد القمة في سياق متوتر للغاية، يتمثل في الهجمات المتكررة بطائرات مسيّرة على مطارات ومنشآت عسكرية في الدنمارك والنرويج، والتصعيد الروسي غير المباشر عبر "حرب هجينة" تشمل الهجمات السيبرانية والتضليل الإعلامي، والمناورات الجوية الاستثنائية فوق جزيرة بورنهولم، والتي تعكس حالة استنفار أمني قصوى. وتؤكد الحكومة الدنماركية أن هذه التطورات تستوجب رداً جماعياً ومنسقاً، يتجاوز الحسابات الوطنية الضيقة.
ورغم التوافق الظاهري، تبرز خلافات بنيوية داخل الاتحاد. فالموقف المجري يواصل تعطيل القرارات الأمنية المتعلقة بأوكرانيا. وهناك أيضاً تحفظات لدول الجنوب الأوروبي على رفع ميزانيات الدفاع، رغم المقترحات بتخفيف قواعد العجز المالي، وذلك وسط مخاوف من تحوّل الفيتو السياسي إلى عائق استراتيجي يعطل وحدة الرد الأوروبي في الأزمات.
وفي هذا السياق، اقترحت المفوضية الأوروبية عدداً من المبادرات الجريئة، منها: إطلاق قروض أوروبية جماعية لتمويل الاستثمارات الدفاعية، كما حدث خلال جائحة كورونا، إضافة إلى تفعيل المادة 122 من معاهدة الاتحاد الأوروبي لاتخاذ قرارات طارئة دون الحاجة لإجماع كامل، ويشمل ذلك: إعادة توجيه الأموال غير المستخدمة في بعض الصناديق إلى قطاع الدفاع، وإنشاء آلية جديدة تُعرف باسم "SAFE" لتنسيق المشتريات العسكرية وتطوير الصناعات الدفاعية الأوروبية.
كوبنهاغن.. مدينة تحت الحراسة المشددة
اتخذت السلطات الدنماركية تدابير أمنية غير مسبوقة، حوّلت كوبنهاغن إلى ما يشبه الثكنة العسكرية. فقد فُرض حظر شامل على الطائرات المسيرة، ونُشرت آلاف من عناصر الشرطة والجيش، مع دعم مباشر من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومشاركة فرقاطات ألمانية ومروحيات فرنسية، وتقنيات متطورة من السويد لمواجهة أي اختراق محتمل. وشمل التحصين أيضاً الجبهة السيبرانية، وسط تحذيرات من هجمات إلكترونية محتملة قد تستهدف البنية التحتية خلال القمة. ووفقاً لمصادر دنماركية، ستشارك أوكرانيا بخبراء أمنيين وتقنيين في جهود مكافحة الطائرات المسيّرة، في تجسيد واضح لتكامل الدفاع الأوروبي.
واختزلت صحيفة بيرلنغسكا الدنماركية البارزة المشهد قائلة: "هذه القمة لحظة الحقيقة لأوروبا. لم يعد مقبولاً أن تُعطّل دولة أو اثنتان قرارات مصيرية تمسّ أمن الجميع. إما أن تتحرك أوروبا بوصفها جسدا واحدا، أو تخسر ما تبقى من ثقة في قدرتها على حماية نفسها".
في كل الأحوال، قد لا تخرج قمة كوبنهاغن بقرارات نهائية، لكنها بالتأكيد ستشكل بوصلة استراتيجية لتوجهات أوروبا في السنوات المقبلة. فمع استمرار الحرب في أوكرانيا، وتصاعد التهديدات الهجينة، وتراجع التطمينات الأميركية، يبدو أن القارة العجوز بدأت تدرك أن أمنها مسؤوليتها.
