قراءة في استهداف المنظمات الحقوقية المعنية بكشف الجرائم في غزة
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
في الوقت الذي تتسع فيه دائرة الجرائم بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وتتكشف يومًا بعد يوم معالم الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل، نرى بعض الحكومات، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، تنحرف عن مسار محاسبة مرتكبي الجرائم، لتوجّه سهامها نحو العاملين في هيئات العمل الحقوقي، التي نذرت نفسها لتوثيق الانتهاكات، وتقديم الأدلة إلى الهيئات القضائية الدولية. فمنذ عقودٍ، دأبت سلطات الاحتلال على استهداف مؤسسات المجتمع المدني، ولا سيّما الحقوقية منها، عبر إجراءاتٍ إداريةٍ وأمنيةٍ، توازيها ضغوط دولية لتقييد التمويل المخصص للعمل الحقوقي. لكن تحمل المرحلة الراهنة مستوىً غير مسبوق من التصعيد، إذ لم يقتصر الأمر على التضييق والوصم، بل بلغ حدّ فرض عقوبات تشريعيةٍ مباشرةٍ على مؤسساتٍ فلسطينية ودولية بارزة. يكشف هذا التحول بوضوح عن توجّه خطير: جعل العدالة نفسها جريمةً، وتجريم الشاهد بدلًا من ملاحقة الجلاد. العقوبات أداةً سياسيةً لقمع المجتمع الحقوقي لا يمكن فهم هذه العقوبات بمعزل عن السياق السياسي الأوسع، إذ تسعى إسرائيل، بدعم أميركي مباشر، إلى عزل المجتمع المدني الفلسطيني، وتجريده من أدوات العمل القانوني والحقوقي. فالولايات المتّحدة تبرر هذه العقوبات بذريعة "مكافحة الإرهاب"، في ما هي في حقيقتها جزء من إستراتيجية لشلّ المؤسسات الحقوقية التي تُشكّل مصدر قلق دائم لإسرائيل في المحافل الدولية. تستهدف هذه العقوبات بالدرجة الأولى تجفيف الموارد المالية للمؤسسات الحقوقية، وتشويه صورتها أمام الرأي العام الدولي، وتقويض مصداقيتها أمام الجهات القضائية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية. المؤسسات المستهدفة: شواهد على الصمود الحقوقي استهدفت العقوبات مؤسساتٍ حقوقيةً فلسطينيةً مثّلت خط الدفاع الأخير عن الضحايا، وحملت إلى العالم أدلة الجرائم في قطاع غزّة. هنا، تقاسمت إسرائيل والولايات المتّحدة المهام في نعت هذه المؤسسات بالإرهاب وتجريمها وفرض العقوبات عليها، وعليه، فإنّ ضرب هذه المؤسسات هو محاولة واضحة لإسكات الشاهد وتجفيف منابع العدالة. تخلق هذه العقوبات بيئةً من الترهيب القانوني، تُوجّه رسالةً واضحةً لبقية المنظّمات مفادها أنّ أيّ محاولة لمساءلة إسرائيل ستُقابل بعقوبات قاسية أقرّت هيئة الكنيست العامة في 2025/2/19 قانون منع الدخول بالقراءة النهائية، بدعم الحكومة والائتلاف ونواب كتل المعارضة الصهيونية، وهو مشروع قانون يحظر منح تأشيرة الدخول لكلّ شخص، أو ممثّل لجهة عالمية يؤيد مقاطعة إسرائيل، بسبب سياساتها، أو يؤيد تقديم مواطنين إسرائيليين للمحاكم الدولية، بسبب نشاطهم (القصد عسكريين وسياسيين) ضدّ الشعب الفلسطيني. قد تبع القانون، إجراءات أكثر تطرفًا، إذ أوصت وزارة الشتات ومكافحة معاداة السامية في إسرائيل وزارة الداخلية بفرض حظر دخول على 50 فردًا، وخمس منظمات حقوقية من 17 دولةً، ضمن إجراءات تطبيق قانون منع الدخول الأولى، التّي وسعت في وقت لاحق لتشمل من "يتهم جنود جيش الدفاع الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب، أو يروّج لادعاءات الإبادة الجماعية والفصل العنصري“. وقد شملت التوصيات منظّمة هند رجب، ومنظمة القانون من أجل فلسطين، ومنظمة الحقّ أوروبا، محامين لأجل حقوق الإنسان الفلسطيني، والديمقراطية الآن للعالم العربي. على صعيد آخر، لم تكتفِ الولايات المتّحدة بدعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا فقط، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حين صنّفت، قبل ثلاثة أشهر، مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان ضمن قوائم ما تسميه "الإرهاب"، ثمّ أدرجت المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، على قوائم عقوباتها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ أعلنت وزارة الخزانة الأميركية لاحقًا فرض مجموعةٍ من العقوبات على ثلاث من أبرز المؤسسات الحقوقية الفلسطينية: المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، مركز الميزان، ومؤسسة الحقّ، وذلك بعد مطالبتها؛ أي المؤسسات الثلاث، المحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بفتح تحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في قطاع غزّة، شملت قصف المدنيين، فرض الحصار، وتشريد السكان. وقد جاءت هذه العقوبات في أعقاب إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحقّ مسؤولين إسرائيليين، في محاولة واضحة لعرقلة الجهود الدولية الرامية إلى مساءلة إسرائيل، وكانت أبرز هذه العقوبات هي وضع هذه المؤسسات على قوائم العقوبات المالية. هكذا استهدفت إسرائيل المؤسسات العاملة من خارج فلسطين، تلك التي تملك قدرة على التأثير في الرأي العام الدولي والمحاكم الأجنبية، في ما ضربت الولايات المتّحدة المؤسسات الفلسطينية العاملة في الداخل، التي تمثّل خط الدفاع الأول عن الضحايا على الأرض. يكشف التنسيق غير المعلن بين الطرفين عن استراتيجية مزدوجة: حصار العدالة من الداخل والخارج معًا، وتجفيف منابعها في كلّ اتجاه، بحيث يُترك الشعب الفلسطيني بلا صوت يوثّق مأساته، ولا منصة قانونية تحاسِب جلاديه. إنّها معركة ممنهجة ضدّ الحقيقة، غايتها الأخيرة ترسيخ الإفلات من العقاب وتحويل العدالة إلى جرم يستوجب العقاب. البعد القانون للعقوبات وأثرها تمثّل هذه العقوبات، من منظور قانوني، خرقًا صارخًا لالتزامات الولايات المتّحدة وإسرائيل بموجب القانون الدولي، إذ ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ضمان حرية العمل الحقوقي للدفاع عن حقوق الإنسان، كما يؤكّد إعلان الأمم المتّحدة لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان ضرورة صون المؤسسات الحقوقية من أيّ تضييق أو انتقام، غير أن ما يحدث هو العكس تمامًا، إذ تُعاقَب هذه المؤسسات لأنّها تؤدي دورها الأساسي. ويترتب على ذلك أثر مباشر يتمثّل في إضعاف قدرتها على التوثيق وجمع الأدلة والشهادات، ما ينعكس سلبًا على الملفات المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما تخلق هذه العقوبات بيئةً من الترهيب القانوني، تُوجّه رسالةً واضحةً لبقية المنظّمات مفادها أنّ أيّ محاولة لمساءلة إسرائيل ستُقابل بعقوبات قاسية. هكذا يتحقق الهدف الإستراتيجي من هذه الإجراءات: حماية إسرائيل من الملاحقة الجنائية، وتكريس منطق الإفلات من العقاب. تقاسمت إسرائيل والولايات المتّحدة المهام في نعت هذه المؤسسات بالإرهاب وتجريمها وفرض العقوبات عليها، وعليه، فإنّ ضرب هذه المؤسسات هو محاولة واضحة لإسكات الشاهد وتجفيف منابع العدال العقوبات وسيلة لعقاب العدالة نفسها إن أخطر ما في هذه العقوبات أنّها لا تستهدف مؤسسات بعينها فحسب، بل تضرب جوهر العدالة نفسها، إذ بات الدفاع عن حقوق الإنسان يُعامل على اعتباره جريمةً، ويُعاقَب الشاهد بدلًا من الجلاد. فبدلًا من ملاحقة الاحتلال على ما ارتكبه من إبادة جماعية موثقة بالأرقام والصور والشهادات، تتحول العقوبات إلى سلاح إضافي في منظومة الحرب الشاملة على قطاع غزّة: حرب عسكرية على الأرض، وحرب سياسية وقانونية على منظّمات الحقوق. والعقوبات المفروضة على المؤسسات الحقوقية ليست مجرد قرارات إدارية أو مالية، بل جزء من معركة كبرى لإسكات الشاهد وإغلاق ملف الإبادة عبر استهداف من يسعى إلى توثيقها. إنّ صمت المجتمع الدولي أمام هذه الإجراءات لا يعني التواطؤ مع الاحتلال فحسب، بل يفضي أيضًا إلى إفراغ القانون الدولي من مضمونه وتجريد الضحايا من حقّهم في العدالة. من هنا، فإن حماية المدافعين عن حقوق الإنسان لم تعد ترفًا، بل واجبًا أخلاقيًا وقانونيًا يمثّل خط الدفاع الأخير في وجه منطق الإبادة والإفلات من العقاب.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية