فلسطين... حالة شغف تونسية تنتقل إلى البحر
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
ليس من اليسير التّأريخ لعلاقة تونس والتّونسيين بالقضية الفلسطينية. ولا أخال أيّ صحافي أو باحث من أيّ دولة أخرى من دول المنطقة قادر على ذلك. فالأمر يتعلّق بوعي فطري، يصعب وضع حدود له في الزّمان. لكن، من الثابت أنّ الثورة الشعبية التّي أطاحت بالرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي مثّلت منعرجًا حاسمًا، إذ دخل مطلب تجريم التّطبيع مع إسرائيل إلى أروقة البرلمان لأوّل مرّة في تاريخ البلاد. بينما أطلقت الثّورة أيدي الشّبان أكثر من أيّ وقت مضى للتنظيم في جماعات ضغط، انضمّ آخرون إلى أحزاب سياسية كان نظام بن علي يُنكلّ بها وبالمنتمين إليها. في كلتا الحالتين، بتنا نسمع صوتًا مختلفًا، بصرف النّظر عن مدى صوابيّة ما يطرحه من بدائل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. من رحم هذا الزّخم، ظهرت تنظيمات عدّة، من بينها "مانيش مسامح" – لن أسامح – المعارض لمشروع قانون يهدف إلى تبرئة مسؤولين متهمين بالفساد إبّان حكم بن علي. ونجحت هذه الجماعة، وقد كان قوامها أساسًا ناشطون يساريّون، في تحريك الشّارع التّونسي، خصوصًا عام 2017، قبل أن يجد المشروع المثير للجدل طريقه للمصادقة في البرلمان. أعاد النّاشطون التّونسيون تنظيم صفوفهم بغرض الانضمام إلى مبادرة دولية تهدف إلى الوصول إلى قطاع غزّة بحرًا. فوصلوا اللّيل بالنّهار للإعداد لهذه الرّحلة تقاطعت حركيّة هذه المجموعة مع تنظيمات أخرى مناصرة لقضايا البيئة، ومناهضة للعنصرية والتمييز والهجرة والتشهير بالقمع الأمني. لم تتماهَ هذه الفئة الشبابية بعضها مع بعض طيلة السّنوات الأخيرة، إذ شقّتها انقسامات حادّة عقب الاغتيالات السياسية التّي شهدتها البلاد عام 2013، وخصوصًا في تقدير الموقف من استيلاء الرئيس التونسيّ قيس سعيّد على السلطة صيف 2021. ثمّ أذاب شنّ إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزّة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الكثير من الجليد بين النّاشطين، فاندفعوا إلى الشّارع للاحتجاج، واعتصموا أمام مبنى السفارة الأميركية في تونس، كما تصدّروا دعوات مقاطعة بضائع الشركات الداعمة لإسرائيل. وليس من قبيل الصدفة أن يستعير الحراك الشعبي الصيغة/ الشعار الأهمّ في ثورة 2011، لتحويلها من "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى "الشعب يريد تجريم التطبيع". فهم يعتبرون أنفسهم فريقًا من الورثة الشرعيين للثورة، على الأقلّ في ما يتعلّق بالعامل العُمريّ. من اللّافت أنّ أوّل مظاهرة شهدتها تونس لإدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، في الثّاني عشر من أكتوبر 2023، سجّلت مشاركة جميع القوى السياسية والمدنية، جنبًا إلى جنب، إذ وضعوا خلافاتهم بشأن الوضع الداخلي جانبًا، وساروا معًا في الشارع، يقودهم في ذلك نشطاء شبّان. لم يكن الحراك الشبابي بشأن دعم الحقّ الفلسطيني مجرّد لحظات احتجاجيّة عابرة، بل كان امتدادًا لمسار طويل من التعبئة المدنيّة والوعي السياسي. ولم تقتصر المظاهرات على العاصمة، بل امتّدت إلى المناطق الدّاخلية، بما فيها المهمّشة منها، إذ لعبت وسائل التواصل الاجتماعيّ دورًا محوريًا في التنظيم وتبادل المعلومات وإنشاء شبكات تضامن تُغطّي معظم أرجاء البلاد. عزّز الحراك فرص إقامة شبكة علاقات واسعة في المنطقة والعالم، فنُظّمت الندوات واللقاءات بحضور أصوات عربية وغربية، حتّى في المقاهي الشّعبية بتمويلات بسيطة في كثير من الأحيان. في السياق ذاته تحديدًا، نما وعي بضرورة الخروج من الحدود التونسية، وإعلاء الصوت بعيدًا، باتّجاه غزّة، فكانت فكرة قافلة الصّمود، التّي سرعان ما تحوّلت من فكرة تونسية خالصة إلى مبادرة اتّسعت إلى دول الجوار. لكنّ المبادرة التّي انطلقت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، بالتّزامن مع مبادرة دولية مماثلة، اصطدمت بعراقيل جمّة، في الوقت الذي استبقت فيه السلطات المصرية إمكانية وصول القافلة إلى أراضيها بالقول بأنّها لن تمسح لها باجتياز الحدود الليبية، وبالفعل، توقّفت عشرات السيارات على تخوم مدينة سرت، فيما مُنع ناشطون غربيّون من الاتّجاه إلى العريش، وقد توافدوا إلى القاهرة جوّا. لم تقف المبادرة عند هذا الحدّ، إذ أعاد النّاشطون التّونسيون تنظيم صفوفهم بغرض الانضمام إلى مبادرة دولية تهدف إلى الوصول إلى قطاع غزّة بحرًا. فوصلوا اللّيل بالنّهار للإعداد لهذه الرّحلة. وتحسب السلطات الإسرائيلية ألف حساب لهذه المبادرة، إذ لم تكتف بتهديد أيّ سفينة تقترب من السواحل الفلسطينية، بل اتّهمها منظّمو الأسطول باستهدافهم مباشرةً، في حين كانت سفنهم ترسو في ميناء سيدي بوسعيد، في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة. لم يكن الحراك الشبابي بشأن دعم الحقّ الفلسطيني مجرّد لحظات احتجاجيّة عابرة، بل كان امتدادًا لمسار طويل من التعبئة المدنيّة والوعي السياسي ولا يبدو الأسطول مجّرد شحنة مساعدات، بل هو فعل رمزيّ وسياسيّ، يجمع بين نشطاء وصحافيين ومثقفين وطلّاب يسعون إلى محاولة لفت الأنظار إلى الأوضاع الإنسانية الخطيرة في قطاع غزّة. ولم ينطلق الأسطول من دون مواجهة مشاكل لوجستية وحملات تشويه، لكنّه خلق زخمًا إعلاميًا وشعبيًا واسعًا، إذ تجمّع الآلاف في ميناء سيدي بوسعيد لوداعه، في مشهد يذكّر باستقبال التونسيين للفدائيين الفلسطينيين القادمين من بيروت عام 1982 إلى ميناء بنزرت، شمالي البلاد. تظهر مشاركة الشباب التونسي في هذا الأسطول، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، تطورًا في أدوات النضال، إذ انتقلوا من التظاهر في الشوارع، إلى الإبحار، ومن الشعارات إلى الأفعال الميدانية. لقد أصبح البحر فضاءً جديدًا للمقاومة، يحمل معه رسائل الحرّية، والكرامة، والعدالة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية