الذاكرة الهشة: كيف تنقذنا لحظات الحياة المؤثرة؟
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
لماذا نحتفظ ببعض الذكريات كأنها حدثت البارحة، بينما تتلاشى أخرى كأنها لم تكن؟ دراسة جديدة من جامعة بوسطن، نشرت يوم 24 سبتمبر/أيلول في مجلة ساينس أدفانسز (Science Advances)، تقدّم تفسيراً علمياً عملياً لهذا اللغز. إذ تبيّن أن الأحداث البارزة عاطفياً ـ سواء كانت مفاجئة، أو مجزية، أو مثيرة للدهشة ـ تملك قدرة استثنائية على امتداد أثرها إلى ما قبلها وما بعدها، فتنقذ الذكريات القريبة الضعيفة وتثبّتها في الذاكرة طويلة الأمد. يقول المؤلف الرئيسي للدراسة، روبرت رينهارت، أستاذ علم النفس وعلوم الدماغ في جامعة بوسطن: "الذاكرة ليست جهاز تسجيل صامتاً. أدمغتنا تختار ما يهمّ، ويمكن للحظات العاطفية أن تعود بالزمن إلى الوراء لتثبّت ذكريات كانت على وشك الضياع". هذه النتيجة، بحسب رينهارت، لا تقتصر على تفسير تباين ما نتذكره وما ننساه، بل تمس طريقة تعلّمنا، وكيف نذاكر، بل وحتى كيفية علاج ضعف الذاكرة أو تهذيب الذكريات المؤلمة. تقرّب الدراسة فكرتها بمثال حيّ: "تتمشّى في متنزه يلوستون، وفجأة يظهر أمامك قطيع من البيسون (الثور الأميركي). ستبقى تلك اللحظة محفورة في ذاكرتك، لكنك ستتذكر أيضاً تفاصيل عابرة: صخرة على جانب الدرب، سنجاب اختفى بين الأعشاب، أو رائحة الصنوبر التي ملأت الجو". لماذا؟ لأن الحدث الكبير، بما يحمله من شحنة عاطفية، سحب معه التفاصيل الصغيرة المجاورة. لكن ظلّ هذا الأثر موضع جدل طويل: هل تقوّي الأحداث العاطفية تذكّر ما يسبقها (تعزيز رجعي)، أم ما يليها (تعزيز استباقي)، أم أن الذاكرة لا تتأثر على هذا النحو؟ حاول فريق رينهارت حسم الإجابة عبر عشر تجارب شارك فيها نحو 650 شخصاً، مع تحليل ضخم للبيانات بمساعدة الذكاء الاصطناعي. النتيجة: نعم، التعزيز يحدث، لكنه ليس عشوائياً، بل متدرج ويخضع لمعايير واضحة. في التجارب، شاهد المشاركون عشرات الصور ارتبطت بمستويات مختلفة من المكافأة، ما ولّد لحظات متباينة الأثر. في اليوم التالي، خضعوا لاختبار مفاجئ للذاكرة. ظهرت نتيجتان أساسيتان: الذاكرة الاستباقية: تذكر الأحداث التي تلي مباشرة حدثاً مؤثراً كان أقوى كلما زادت قوة الحدث الأول. أي أن اللحظة الكبيرة تضيء ما يليها وتجعل تذكره أوضح. الذاكرة الرجعية: أما بالنسبة لما سبق الحدث المؤثر، فإن الزمن وحده لا يكفي. بل يجب أن تشترك اللحظة السابقة مع الحدث البارز في خيط معنوي أو بصري: لون، فكرة، أو فئة مفهومية مشتركة. هنا فقط ينقذ الدماغ الذكريات الضعيفة ويمنحها فرصة البقاء. يقول رينهارت: "للمرة الأولى، نعرض دليلاً واضحاً على أن الدماغ ينقذ الذكريات الضعيفة بصورة موجهة، لا عشوائية، شرط أن تكون مرتبطة مفهوماً أو بصرياً بالحدث الكبير. ليس التوقيت وحده مهماً، بل التداخل المعنوي أيضاً". رصدت الدراسة أيضاً حداً دقيقاً: إذا كانت الذكريات الثانوية قوية عاطفياً أصلاً، يضعف أثر الإنقاذ. كأنّ الدماغ يعطي الأولوية لإنقاذ ما كان سينسى، لا ما هو حاضر بقوة في الذاكرة. هذه الملاحظة تحمل تطبيقات مباشرة في التعليم. فالمعلّمون يمكنهم تثبيت مفاهيم صعبة عبر ربطها بمحتوى عاطفي مشوّق: قصة، صورة مؤثرة، أو تجربة عملية، مع خلق صلة واضحة بين المفهوم والحدث الجاذب. بهذه الطريقة، لا تُحفظ اللحظة وحدها، بل تصحب معها الفكرة الهشّة. في المقابل، يحذر الباحثون من ربط معلومات ثانوية بأحداث مشحونة عاطفياً، لأنها قد تستحوذ على مساحة غير مستحقة في الذاكرة. أما في العيادات، فقد تفتح النتائج باباً لإنقاذ ذكريات مهددة لدى كبار السن عبر إشارات عاطفية إيجابية، أو العكس لدى المصابين باضطراب ما بعد الصدمة، حيث يجب تجنّب أي تعزيز يقوّي روابط مع ذكرى مؤلمة، والعمل بدلاً من ذلك على تفكيك هذه الروابط. يوضح رينهارت أن الرسالة بسيطة: "اصنع روابط". إذا أردت أن تحفظ معلومة مهمة لكنها لا تثبت، اربطها بلحظة مؤثرة: قصة شخصية، صورة معبّرة، أو حتى مكافأة صغيرة. وإذا عشت حدثاً كبيراً، مثل خبر سار أو نجاح مفاجئ، فاستثمره بمراجعة ما سبقه أو ما سيليه وربطه به. هكذا تعمل مع طبيعة الدماغ لا ضدها، وتمنح ذكرياتك الهشّة فرصة النجاة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية