الأثمان الأقلّ كلفة لبناء السوريين الوطن والدولة
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
نعرف أنّه من الصعب، وسط حُفَر الجحيم التي حفرتها العصابات الأسدية في الأرض السورية، أن تسير الأمور على طبيعتها، وأن يتحقّق الاستقرار في نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، ما لم يترافق ذلك، ومنذ الآن، ببثّ رغبة أكيدة في الخروج من هذا المستنقع، عبر دفع الأفراد والجماعات والأحزاب والمؤسّسات إلى تحمّل المسؤولية، إذ يبدو من شبه المستحيل الخروج من هذا المستنقع ما لم يكن خروجاً جماعياً لكل السوريين، على اعتبار أنهم كانوا جميعاً، بشكل أو بآخر، يعايشون الحقبة ويتربّون فيها، وكان منهم من تحوّلوا إلى جلّادين، ومنهم من تحوّلوا إلى أبرياء وضحايا، وهذا ما أفرز الانقسامات الحادّة بينهم. وهو ما يصعب معه أن يحكم طرفٌ البلاد من دون أن يجد من يناكفه ويعارضه أو يسعى إلى إقصائه، مهما كان شكل هذا الطرف وشكل حكمه، سواء أكان علمانياً أو ديمقراطياً أو إسلامياً أو مدنياً، فلو جاء علمانياً لتصدّى له المتديّنون، ولو جاء دينياً لتصدّى له العلمانيون، ولو جاء ديمقراطياً لتصدّى له الليبراليون، ولو جاء سنّياً لتصدّى له الآخرون. وجلّ هؤلاء كانوا قد تربّوا على العصا والمسطرة، ولا يجيدون خوض معاركهم إلا بها. ومن هنا يمكن القول إن مثل هذا الصراع كان وارداً جدّاً أن يحدث بين أبناء شعب مزّقتهم الأسدية، وعُرفوا من قبلها بطوائفهم وأعراقهم ومذاهبهم لا بوصفهم مواطنين سوريين. إذاً، المشكلة القائمة كان يمكن أن تحدث في جميع الأحوال، ما يعني، بشكل أو بآخر، أنّ السلطة الحالية ليست هي المشكلة الرئيسة في حدّ ذاتها، إنما تكمن المشكلة في ما آلت إليه حال السوريين بعد أن حكمتهم الأسدية بالنار والحديد خمسة عقود وأكثر، ما أدّى إلى انعكاس آثارها في كامل الساحة السورية. وكان من بين تلك الآثار نشوء السلطة الحالية التي تسلّمت زمام الحكم بالقوة وبأدوات عسكرية، وقد قدّم أفرادها التضحيات الكثيرة وأعدّوا العدّة لإسقاط الأسد السفّاح منذ زمن بعيد، فكسبوا الرهان وحققوا النصر. ما يعني أنّه من غير المنطقي التعامل مع هذه السلطة بلغة التهديد والوعيد والإقصاء، والتنكّر لكل التضحيات التي قدّمتها، وعدم رؤية أي شيء إيجابي فيها، إنما الأجدى مخاطبتها بلغة السياسة والعقل، بحثاً عن كيفية خروج سورية من عنق الزجاجة. بالطبع، ليس هذا النوع من الخطاب مطلوباً من جميع السوريين، إنما هو الخطاب الأمثل لو تبنّته النخب والمثقّفون، وهم الذين يدركون أكثر من غيرهم أنّ الأوطان والدول لا تُدار إلا بلغة الحوار والسياسة، وعبر قنوات ومؤسّسات الدولة، التي من واجبها، قبل أي شيء آخر، توفير السلم والأمان لمواطنيها، وتوفير المأكل والمشرب والمسكن وتأمين العمل. في حين أنّ لغة الأهواء والأحقاد والإقصاء لن تؤدّي إلا إلى مزيد من الخراب، وربّما إلى انهيار وزوال الدولة. وأول ما يبدأ مثل هذا الزوال بزوال طمأنينة الأم على أطفالها حين تغدو أسمى غاية لها إسكات جوعهم أو تضميد جراحهم، ويبدأ بانعدام غفوةٍ تلامس جفون الأب، إلا إذا ثأر لدم ابنه. هكذا تزول الدول والأوطان وتندثر الشعوب إذا ما استحكمت بها الأهواء والرغبات، ولا يبقى منها سوى حجارة مبعثرة تنبئ عنها، أو قصص يرويها التاريخ كما يشاء. ليست السلطة الحالية هي المشكلة الرئيسة، إنما في ما آلت إليه حال السوريين بعد أن حكمتهم الأسدية بالحديد والنار ومن هنا علينا أن نتساءل: كيف يزعم بعض منّا (نحن السوريين) أنّنا نريد بناء وطن ودولة، في حين نلعب على حبال الكراهية وكأننا مهرّجون نلعب على حبال السيرك لتفريغ الشحنات والتسلية؟ كيف لنا أن نبني وطناً ودولة ونحن نواصل التجييش، لا ضدّ السلطة القائمة فحسب، بل ضدّ بعضنا بعضاً أيضاً؟ هل أدركنا حجم الحفر والإخفاقات التي انسقنا إليها، وما نالنا منها خلال الأشهر التسعة الماضية من جراحات داخلية عميقة قد يحتاج علاجها إلى مائة سنة أو أكثر، حين عدنا إلى أعراقنا ومذاهبنا وطوائفنا وكأننا نرتدّ إلى الوراء ألف سنة؟... هذا ليس ناتجاً فقط من بعض الإخفاقات في أداء السلطة الحالية، ومن غير المنطقي أن نحمّلها كامل المسؤولية عن كل ما جرى ويجري وسيجري، إنما علينا أن ندرك أوّلاً أنّ هذه السلطة، التي نطلق عليها التسميات كيفما طاب وشاء لنا، ونريد شنّ الحروب عليها لاقتلاعها من جذورها، تضمّ في جنباتها عدداً هائلاً من الأكاديميين والمتعلّمين والمتنوّرين، وعدداً كبيراً من السوريين الذين وقفوا في الجبهات يتصدّون للعصابات الأسدية على مدار 14 عاماً، وهم يطالبون بالحرية والكرامة. ومعظمهم كانوا شباناً صغاراً وضحّوا بالكثير، ويكاد يكون من شبه المستحيل أن يتخلّوا عن السلطة الحالية التي يعتبرونها قد حرّرتهم ممّا وقع عليهم. وعلينا أن ندرك أيضاً أنّ هذه السلطة لا تتكوّن فقط من مجموعة أفراد أمسكوا بدفّة الحكم، بل تتألف كذلك من مئات الآلاف من المقاتلين، إضافة إلى حاضنتها الشعبية التي قد تضمّ الملايين من السوريين، ومن مختلف المكوّنات والطوائف والمناطق. وهؤلاء جلّهم ذاقوا من ويلات الحقبة الأسدية أشدّ العذابات والمرارات، وبعضهم ما زال أحبّتهم في أعداد المختفين قسراً، وبعضهم ما زالت أمهاتهم وأخواتهم وأطفالهم يعيشون نازحين في المخيّمات، أو مشرّدين ولاجئين على مساحات هذه الأرض. ومنهم من أذابتهم العصابات الأسدية بالأسيد. والخطير في أمر الدعوة إلى إقصاء هؤلاء كلّهم، والتنكر لهم، واستخدام لغة التهديد والوعيد معهم، أنّهم مستعدّون للدفاع عن هذه السلطة أمام أيّ محاولة للنيل منها، لا حبّاً بها بالضرورة، بل تمسّكاً بالأمان الذي يرونه قد عاد إلى حياتهم، وخوفاً من إمكانية أن تعود أشباح الأسدية لتخطف منهم حلمهم بسقوطها، وما حقّقوه من نجاحات وانتصارات. وخوفهم هذا مفهوم ومشروع، ولا يجوز الاستهانة به. تعالوا نفكّر ملياً: ماذا لو نشب الصراع الدامي بين السلطة القائمة ومن يقف معها، وبين الأطراف الأخرى؟ هل لنا أن نتخيّل حجم الدم الذي قد يُسفك ويسيل؟ ومقدار فداحة الاقتتال الذي يمكن أن يحدث، وكيف سيعمّ الخراب والفوضى في جميع الأرجاء السورية؟ هل لنا أن نتخيّل حجم الفاجعة التي سيستفيق عليها أطفالنا الآن وفي المستقبل، لو حدث ذلك؟ هل نكون حينها قد بنينا لهم وطناً ودولة؟ لن تؤدّي لغة الأهواء والأحقاد والإقصاء إلا إلى مزيد من الخراب، وربّما إلى زوال الدولة هل بمثل هذه الأساليب والأدوات تُبنى الدولة والوطن؟ بالطبع لا. ومن جهة ثانية نأمل من السلطة أن تعي أنّها، كلما تمسّكت بالعصبية الضيّقة وانكفأت على نفسها أكثر، توجّست منها الأطراف الأخرى وتآمرت عليها وناصبتها العداء، واضطرّت بدورها إلى الردّ على هذه الأطراف بالمثل. هي عملية جهنمية تبادلية، لو فلت زمام التحكّم بها لأحرقت اليابس والأخضر كما يقال. وقد رأينا نتائج ما حدث في الساحل من مآسٍ وما نتج منها، وكذلك الحال بالنسبة لتفجير الكنيسة في دمشق، وما جرى من مآسٍ مروعة في السويداء... وكيف ضاعف ذلك من وتيرة الكراهية والأحقاد، وساهم من جانب آخر في مضاعفة قلق السلطة وتخوّفها، وجعلها متوجّسةً من الغير، ودفعها إلى الانكفاء أكثر على نفسها، وساقها في بعض الأحيان إلى اتباع سياسة البطش لمن تراه يخرج عن أمرها. وفي المقابل، ضاعف هذا من عدد خصومها وعدد من يريدون التخلّص منها، حتى لو تطلّب الأمر التعاون مع العدو. إذاً، كفانا تجييشاً وحقناً للكراهية والبغضاء واللعب بالنار، ولنُبادر إلى التشارك لا إلى الإقصاء. وحتى وإن انحرفت السلطة وأبدت عدم رغبتها بالتشارك، فليكن بيننا من يرشدها ويصلح عطبها، ويعمل على وضع عجلاتها في السكّة الصحيحة، بالحجج والبراهين لا بالعصا والمسطرة وبلغة الوعيد والتهديد. السلطة القائمة ليست من حديد وفولاذ، وليست كتلةً صلبةً، إنما تضمّ بين أفرادها خليطاً من الناس، وبينهم كثير من الحكماء والعارفين أنّ الدولة لا تُبنى بخطاب الكراهية، ولا تُقام على أنقاض الحطام والإقصاء. وهم يمدّون أياديهم إلى كل يد ممدودة تحمل معها الأمن والسلام. ويدركون أن التجارب الحديثة ما بعد الحروب (مثل ألمانيا واليابان) أظهرت أن إعادة إعمار الدول لا تبدأ بالإسمنت فقط، بل بإصلاح القضاء والسياسة والصحة والتعليم، لترسيخ قيم المواطنة والعدالة والديمقراطية لأبناء الوطن الواحد، لا قيم الأعراق والطوائف والمذاهب التي لا تجلب معها إلا تفتيت الناس وتوسيع حفرة المستنقع.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية