
عربي
التعفيش مصطلح سوري بامتياز، سبق أن نحته السوريون في زمن بشار الأسد حين أخذ الجنود السوريون ينهبون البيوت في المدن، والبلدات، والقرى، التي يحتلونها، في تقدمهم لقمع التمردات الشعبية. لم يتوقف هذا التقليد قط في السنوات الخمس عشرة الماضية، إذ سرعان ما أخذ الجنود السوريون في النظام الذي حلّ محل نظام بشار، العمل بتقليد نهب البيوت، أو تعفيشها.
اللافت هذه المرة، أن يسرع جناح كبير من المثقفين السوريين، لتنفيذ إجراء مماثل، ولكن أكثر براعة، ومهارة، يتمثل في تعفيش الأفكار، والقيم العامة والخاصة، والمفاهيم، والمصطلحات من جميع معاجم المعرفة البشرية، وإعادة تصنيعه في ماكنة الفكر الجديد المخصص لمديح السلطة الحاكمة.
يعفش المثقف السوري المصطلحات من معجم علم الاجتماع ومعجم الأخلاق ومعجم السياسة ومعجم الشعر والرواية ومعجم الاقتصاد ومعجم التاريخ والجغرافيا، ويقدم لقرائه خلطة متقنة، أو ملفقة من تلك المصطلحات التي زادت فكرياً في العالم الضعيف الذي ينشد العدالة.
الداهية أن المثقف داهية، وأنه قادر على التملص من المحاسبة الفكرية والأخلاقية، فلديه مهارة في استعارة المفهوم من أي علم من العلوم الإنسانية (والتعفيش أو السطو يحدث هنا بالضبط)، ووضعه في السياق الجديد، كما لو كان في لعبة "ليغو". وبفضل الوفرة المفاهيمية التي أفرزها عالمنا الحديث في جميع العلوم الإنسانية، وغير الإنسانية، فإن باعه الطويل في عالم الفكر، يمنحه القدرة على ترحيل الأفكار، من كتاب إلى آخر، لإرغام الواقع هذه المرة، على الخضوع للفكرة، لا استخلاص الفكرة من حقيقة الواقع. فالبراغماتية تغدو شهادة حسن سلوك نوعية تمنح للسياسي الحاكم، ويمدح على أنه يتقن استخدامها، بدل أن تكون ذلك المصطلح الذي اعتاد المثقف نفسه على استخدامه لهجاء السلوك السياسي القائم على مبدأ المنفعة الخالية من الإنسانية، كما اعتاد الحكام أن يفعلوا من قبل. يتلو ذلك وضع سلّة من مصطلحات علم الأخلاق: الضمير والوجدان والحقيقة والصدق، وغيرها، في سلة الحاكم الجديد، وأتباع الحاكم، وسياسات الحاكم، وانتزاعها من أرض الخصوم. واللافت أن عدداً من هؤلاء الخصوم، كانوا حتى الأمس القريب، رفاق الدرب في الثورة على الاستبداد.
يبرئ الكاتب قاتلاً يتباهى بجريمته، ولا يريد البراءة
يتحول الشاعر السوري المعاصر إلى شاعر بلاط، من دون أن نرى الدنانير التي يخلعها عليه الخليفة، ويجند الروائي نفسه لتلطيخ سمعة الآخرين بمخزونه من القراءة واستعارة المقبوسات من الكتاب العالميين، من دون أن يحفل بتاريخ أولئك الكتاب الذي انتصروا لقضية الإنسان في كل مكان، وزمان، ولم يدافعوا عن قاتل، أو لم يبحثوا عن ذرائع تعفيه من المسؤولية عن القتل.
وهذه المرة لا يتعلق أمر التعفيش بالخلط بين هذا المفهوم أو غيره، أو الاستخدام المعرفي غير الدقيق، فالكاتب يستعير المفاهيم كي يزور الحقائق، ويمسح الدماء عن خناجر القتلة، ويبيض سمعتهم، ويمنحهم رسائل مزورة عن الوطن والشرف والأخلاق. الكاتب في الوضع السوري اليوم يحاول أن يدافع عن القاتل، في حين أن القاتل يأخذ صوراً لنفسه ولرفاقه وهم يقتلون.. وهذه واحدة من اللحظات الغريبة في تاريخنا المنكود، حين يبرئ الكاتب قاتلاً يتباهى بجريمته، ولا يريد البراءة.
* روائي من سورية
