
وصلت إلي رسالة أخيرة منها، وبعد ذلك لم أعرف عنها شيئاً، فقد كتبت لي بكل ألم، وفي فجر يومٍ مضى، وكنتُ أعلم أن رسالتها قد استغرقت وقتاً طويلاً حتى وصلت، ولكن الألم ظلَّ حاضراً فيها، وحروفها تقول: "نحن بخير، ولكني لا أعرف، لو متنا، كيف ستعرفين بذلك".
هنا اعتصر الوجع قلبي، وأعاد إليَّ ذكرى مريرة عن الأيام الأولى من هذه المحرقة، حين لجأتُ مع أولادي إلى أحد بيوت أقاربي في "منطقة الكرامة" شمال غربي مدينة غزّة، معتقدين أن هذه الجولة لن تستمر أكثر من أيام. ورغم تعرّض بيتنا للقصف، لم نفكّر في مغادرة المدينة. وهكذا، كنا نلقي بأنفسنا في أكثر المناطق سخونة، لكننا لم نكن نعرف ذلك، لأن الاتصالات كانت قد انقطعت تماماً عنها.
تذكرتُ، ومع انقطاع الاتصالات المتزامن مع حملة إخلاء مدينة غزّة متسارعة الوتيرة، ما حدث معي في تلك الليلة التي تُعدُّ من أقسى الليالي التي عشتها. لذلك، كنتُ أتخيّل مشاعر الناس الذين يكونون في منطقةٍ بلا أي وسيلة اتصال بالعالم، وهم لا يعرفون شيئاً عمّا يدور حولهم، ويشعرون بالعجز والخوف، لأنهم لا يستطيعون أن يرسلوا إلى أحبّتهم البعيدين ولو كلمة واحدة ليطمئنوهم.
ذلك الشعور عشته في ليلة الأربعاء الأولى من ليالي هذه المقتلة الحارقة، حين انقطعت الاتصالات، وأصبحنا قرابة خمسين شخصاً في بناية من ثلاثة طوابق، لا نعلم أن هناك أوامر إخلاء قد صدرت بضرورة الخروج من المنطقة. بل تلقّى أكبر مساجدها أمراً محدّداً بالإخلاء تمهيدًا لقصفه، وهو لا يبعد سوى بضعة أمتار عن البناية التي كانت تهتزّ كل دقيقة على وقع الانفجارات الهائلة.
كيف يمكن أن تبقى في مكانٍ لا تعرف إن كان صاروخٌ سيصيبه في أية لحظة، لأنه أصبح مصنَّفاً ضمن دائرة مناطق الإخلاء؟... يبدو أنني أصبحتُ أستخدم المصطلحات العسكرية التي دأب الجيش الإسرائيلي على استخدامها في بياناته التي ينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وبدون اتصالاتٍ مع العالم، تكون كالأصمّ الأبكم الذي لا يعرف ما يخطّط له متآمرون على قتله، فيما هم يبتسمون في وجهه.
هكذا كنتُ عاجزة، وحين تحوَّل هاتفي إلى قطعة صمّاء تشبه خرقة بالية ملقاة على قائم خشبي في مطبخ عتيق، لم يكن أمامي سوى أن أذرف الدموع، وأنظر نحو تلك القطعة الصامتة، متمنّيةً أن تحدُث معجزة، فأرى على شاشتها ما يخبرني بما يحدث حولي، أو أن أتمكّن من كتابة كلمتين فقط ليطمئن ابني البعيد الملهوف: "نحن بخير".
في تلك الليلة، اكتشفتُ أننا قد نموت في صمت، من دون أن يشعر بنا أحد. فلم تكن هناك أية إشارة إلى الحياة حولنا مع مرور ساعات الليل، ولم نكن نسمع سوى أصوات الانفجارات التي لا تتوقّف، إلا ليحلّ محلها ما هو أقوى، وكأن العدو قرّر في تلك الليلة أن يجرّّب كل أنواع أسلحته، مفجّراً بركاناً من الغضب عبرها. كان ذلك البركان أقوى وأعنف حتى من قوة تلك الأسلحة، التي اختلطت أصواتها القادمة من السماء، ومن البحر، ومن الأرض.
حين كتبت لي رسالتها الأخيرة، كانت لا تزال في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزّة، بلا وسيلة انتقال نحو وسط القطاع أو جنوبه. ومع انقطاع الاتصالات بعدها، كنتُ أعرف مشاعرها جيّداً، وأتخيّلها تحتضن أجساد أطفالها الصغار، تستمع إلى أصوات الانفجارات المحيطة بهم وتبكي، وهي لا تعرف لماذا تبكي. فلديها أسبابٌ باذخة، أولها الخوف من موت بشع يتربص بها، وليس آخرها خوفها على أحبّتها الملهوفين عليها من بعيد. ولذلك هي تبكي، مثلما بكيتُ وأنا أعيش ذلك الموت الصامت، الذي يعيشه اليوم أهل مدينة غزّة، بينما كنتُ أنظر إلى تلك القطعة الصامتة إلى جواري، كخرقةٍ بالية على قائم خشبي في مطبخ عتيق.
