
يستعيد المرء صورة الطفولة في المدرسة من خلال مشهد لغوي خاطف: في الصف الأول، يقف الطفل أمام المعلمة ليعرّف عن اسمه، فينطقه كما اعتاد في بيته، باللهجة التي يسمعها كلّ صباح مع العائلة، لكن ابتسامة المعلمة المرتبكة، وتصحيحها الفوري لطريقة نطقه، تقول ما هو أبعد من الكلمات. يحيلنا هذا المشهد على تأمل اللغة بوصفها سلطة تتسلل إلى الوعي، لا مجرد وسيلة للتواصل، إذ يكفي تصحيح بسيط، أو تلميح عابر، ليعيد تشكيل العلاقة بين المتكلم ومجتمعه، فتصبح اللغة أداة تأديب ناعمة، ترسم حدود المقبول، وتحدد من يحق له أن يتكلم، وبأي نبرة.
تشكيل ذاتي
اللغة بيتٌ نسكنه من الداخل، وحين يُطلب مغادرة هذا البيت إلى لغة لا تشبهنا، لا نفقد القدرة على الكلام فحسب، بل نبدأ بالتشكيك في أنفسنا. ويعبّر الكاتب الكيني نغوجي واثيونغو عن هذا بدقّة حين يقول: "اللغة تحمل الثقافة، والثقافة تحمل النظام الكامل للقيم التي نُدرك من خلالها ذواتنا وموقعنا في العالم".
في الصفوف الأولى، يتعلم الأطفال القراءة والكتابة، ويتعلمون ما يُسمّى، وفقاً لتحليل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، "اللغة الشرعية"، أي الشكل المقبول اجتماعياً من اللغة الذي يُمنح من يتقنها اعترافاً ضمن النظام القائم، ولا تُدرَّس اللغة هنا بوصفها أداة تواصل، إنما هي آلية تصنيف وإقصاء، يُرتَّب فيها الصوت في سلّم غير معلَن: لهجة المعلم في الأعلى، ولهجة البيت في الأسفل.
تتحوّل اللغة من أداة تعبير إلى تذكرة عبور طبقي
يشرح بورديو، في كتابه "اللغة والسلطة الرمزية" (1982)، أن اللغة تُكتسب قيمتها في السوق الرمزي عبر من يتكلمها، وفي أي موقع اجتماعي، ومن خلال هذا النظام، تُفرض الهيمنة الأيديولوجية من دون قسر مباشر، بواسطة ما يسميه: "أنجح أشكال الهيمنة الأيديولوجية هي تلك التي لا تحتاج إلى أن تُقال، ولا تطلب أكثر من صمتٍ متواطئ".
وفي ضوء ذلك، تُنتج المدرسة ما يُشبه "اللغة الشرعية" التي تُمنَح مكانة عليا، بينما تُعامَل اللهجات المحلية بوصفها "نقصاً لغوياً" ينبغي تصحيحه، لا امتداداً ثقافياً يستحق الفهم، وعند هذه العتبة، تتحوّل اللغة من أداة تعبير إلى تذكرة عبور طبقي، يُقاس فيها صوت الإنسان بقدرته على التخلّي عمّا يشبهه.
ترويض الوعي
في حياتنا اليومية، تلاحقنا التغطيات الإخبارية، لكننا نادراً ما نسمع الحدث كما هو، فالأخبار تعيد تشكيل الحقيقة بلغة صادرة عن سياسات غرف التحرير، فالمجازر تُسمّى "تصعيداً ميدانياً"، والاجتياحات تتحوّل إلى "عمليات أمنية"، والضحايا يُختزلون في أرقام جافة، وهكذا تؤدي اللغة الملطفة دورها: تغلّف العنف بألفاظ ناعمة، وتعيد تأطير الوعي العام من دون أن يشعر المتلقّي بأن شيئاً قد حُجِب.
وعلى المنصات الرقمية، تتكرّر اللعبة بأدوات جديدة: الخوارزميات تروّج العبارات المصقولة، المختزلة، سهلة التلقّي، وتُهمّش الأصوات الثقيلة بالتجربة أو الخارجة عن النمط السائد، حيث تقابل فتاة من مخيمات شمالي سورية أو من صعيد مصر تتحدث بلهجتها عن تجربة حقيقية مع الفقر أو التهميش، بالسخرية والاتهام بالتدليس أو التسوّل الرقمي، بينما يكافأ مقطع بلغة هجينة بملايين المشاهدات والإعجاب، وبهذا الشكل، لا تتحكم الخوارزمية في انتشار المحتوى فقط، بل في تشكيل الذوق وتمييز من يُسمَح له بأن يُصغي إليه.
وقد لخّص واثيونغو هذا الترويض الثقافي بدقّة في كتابه "تصفية استعمار العقل" (1986) بقوله: "حين يُنتزع الطفل من لغته الأم، يُزرَع الشك في صوته الداخلي"، ولا يقتصر هذا الشك على الفرد فحسب، إنما يمتد إلى الجماعة بأكملها، خاصة في فضاءات الإعلام، فعندما يُعاد التعبير عن الألم الجماعي بلغة محايدة أو مستعارة، يتحوّل الوعي بالحدث، وتخفت حدّته في الإدراك العام، وتُصبح الكارثة سرداً تقنياً، والمأساة مجرّد محتوى عابر، وتتحوّل اللغة من وعاءٍ للمعاناة إلى أداةٍ لإخفائها.
* كاتب سوري في قبرص
