
يولد الإنسان إنساناً، ثمّ يصبح ما ينشأ عليه، أو ما يختاره، أو ما يُفرَض عليه فيقبله: خروفاً في قطيع كبير، أو ثعلباً يلتهم دجاجات غيره، أو بغلاً يكدح طوال يومه من أجل لقمة، أو ذئباً يغدر بليلى، أو حماراً يحمل أسفار الآخرين. يولد الإنسان كريماً، ثمّ يختار أن يصبح رهينةً أشياء وأناس وأمور أخرى، إمّا لقمة العيش، أو الرغبات، بغضّ النظر عن نوعيتها. وقد يحدث ويصبح أفضل ممّا خُلق عليه، فيتمسّك بكرامته رغم كلّ شيء، فيطير مع الطير الطائر إلى النهاية.
في المدرسة، وما بعدها، يُلحّ المعلّمون، وأساليب التعليم التي لا تنتهي، على كلمة "البناء"، بناء الإنسان، بناء المستقبل، بناء الأمل... لكن كيف يبني الناس ما لم يُهندَس؟ كم من البناء البشري عندنا هُندِس؟ الجواب مُحرِج، لأن معظمنا يدخل خانة البناء العشوائي. حتى أن أحدنا لا يمكن أن ينفي كلياً تهمة أنه جاء بالغلط، لأن أمّه نسيت الحبّة، أو لأن أباه تجاوز قواعد معينة في منع الحمل، فحملته أمه مرغمةً إلى عالم فائض بمن فيه. لعلّ القدامى أبرياء من شبهة المجيء بالغلط (غلط تقني لا وجودي)، إذ جاؤوا بالجملة لا بالتقسيط ولا بالتردّد. لكن ابتداءً من جيل الثمانينيّات عرفت الأُسر في هذه الجهة من العالم تنظيمَ النسل، وهو تنظيمٌ خاضع للاجتهاد، ومعرّض للأخطاء التي تؤدّي دوماً إلى الإنجاب عندنا.
ولعلّ إحداها كانت محاولةً خاطئةً في الهندسة، لأنّ الأبوين ظلّا ينتظران المولود الذكر، فجاءت بنات كثيرات بدل الولد، ليكون خطأ هندسياً في محاولة تحديد ما لا يُحدَّد إلا في عالم الأماني، وهذا قبل أن تصبح هندسة جنس المولود ممكنةً، كما هي الآن. حينها كانت الهندسة البيولوجية تُبنى بالدعاء، ولا يُبنى غيرها به، فكلّ شيء بشكل ما معروف مكانه وشكله، كأنّ الناس يأتون لملء فراغات تركها السّابقون منهم.
بينما تتجاوز هندسة الإنسان الحقيقية الانتظار الجماعي، وتعني طبيعته وهُويَّته، لا جنسه وجماله وتناسق ملامحه، وخلوّه من الأمراض. فهي مجرّد تفاصيل ما كان يمكن أن نقول عنه بسببها سوى أنه ينتمي إلى النوع البشري، لكنّها لا تحدّد الإنسان في ذاته. الإنسان بإنسانيته، لا بملامحه وقدميه الاثنتين، أو عقله حتى. فكم من عقل قاد صاحبه إلى خارج خانة الإنسانية، العقل لا يُعوّل عليه، بل القلب هو المؤشّر الحقيقي. فقد يفكّر المرء عميقاً، ثمّ يقرّر ما يراه مناسباً ومنطقياً، لكنّه مع ذلك سيكون لاإنسانياً. لكنّ العبقري المجنون نيتشه يرى أن قمّة الإنسانية في التفكير، أي أن العقل هو مصدر إنسانية الإنسان، وكتب "إنسان مفرط في إنسانيته"، للاحتفاء بالتفكير. لذا يسعى إلى تشغيل دائم للعقل للإبقاء على الإنسانية قيد العمل. رغم احتفائه بالعقل، فإنه رأى أن الإنسان "يكون على أعلى قدر من الأخلاق في حالة انفعاله". ويقول في سياق تحديد ماهية الإنسان، إن "الفلاسفة يعانون من خطأ مشترك هو أن الإنسان يتراءى لهم في هيئة حقيقة خالدة. شيئاً ثابتاً ومقياساً موثوقاً لكلّ الأشياء. لكن رؤيتهم هذه ليست سوى شهادة عن إنسان زمني محدود، في شكل قارٍّ يظنون أنه الإنسان"، بكلّ تجلّياته.
في الهندسة الإنسانية، هناك محاولات حقيقية لبناء الإنسان، فيما لا تزال دول منشغلة في البناء البيولوجي، بالعودة إلى التشجيع على الإنجاب لتعويض النقص الديموغرافي مثل الصين، وأخرى مازالت توزّع حبوب منع الحمل بالمجّان، ولا تزال الأسر فيها تتضاعف رغم ذلك. لكن هل يبني هؤلاء من جديد، أم يعيدون إنتاج الإنسان المُعيب نفسه؟
في فيلم "ذي بروتاليست"، يهاجر لازلو توث، وهو مهندس معماري يهودي مجري، إلى الولايات المتحدة بعد أن نجا من المحرقة. ويُكلََّف بتصميم مركز مجتمعي لإسكان شريحة العمال. في النهاية نعلم المصدر الذي ألهم توث تصميمه للمركز، ولماذا كان مصرّاً على تنفيذه وفقاً لتعليماته، فالتصميم كان على غرار معسكر الاعتقال بوتشنفالد، التابع للنظام النازي، حيث سجن توث في أثناء الحرب العالمية الثانية. نتيجة انعدام الهندسة هي تكرار البناء الخاطئ بأشكال أخرى.

أخبار ذات صلة.
