
حتى نختتم الحديث عن التراث وإمكانات توظيفه، من المهم الإشارة إلى أن قراءات التسييس والاختزال لا بدّ أن تدفعها قراءات التأسيس والمستقبل والمآل، وأن القراءات الحفرية السالبة لا بدّ أن تحلّ محلها القراءات الإحيائية الإيجابية. لم يعد تحنيط الأفكار يجدي أو يفيد في هذا المقام، لأن هذا التصوّر ليس في النهاية إلا ترسيخاً لثقافة القبور أو الحفريات، وأن عالم الأفكار، وكلّ ما يتعلّق به من عمليات يحتاج منا إلى التبصّر بكلّ الفاعليات. لإحياء عالم الأفكار المخذولة قوانين، وللتعامل مع عالم الأفكار القاتلة أصول، والتعامل مع هذه الأفكار وهي في حالة الحركة لا السكون يفرض تفاعلات هائلة، يجب ألا نتغاضى عنها، فإن قوانين الحركة والتغيير والنماء والتكاثر غير قوانين الجمود والسكون والانقطاع. سلفنا الصالح تفهّموا معاني الصبغة، فصبغت أصولهم وأعمالهم جميعاً، وعرفوا الشريعة كالجملة الواحدة، وتيقّنوا أن رؤى التأسيس لا بدّ أن تفرض فعلاً وأشكالاً وتجلّيات لهذا التأسيس، تحرّك أصول الوعي كما تدفع إلى مقدّمات السعي، والسعي متنوّع الحركات والمجالات، ومن أهم دوائره (على الإطلاق) الحياة البحثية والعلمية.
كثيرة هي المترتّبات على ذلك التمييز بين قراءات التأسيس وقراءات التسييس، وتلك المفارقة بين القراءات الحفرية والقراءات الإحيائية، وكثيرة هي الأشكال والمظاهر التي تتجسّد فيها تلك القراءات السالبة لتحاصر القراءات التأسيسية الإحيائية الحضارية. الحضور التراثي ليس إقحاماً، ولكنّه إسهام في التفسير والتدبير على حدّ سواء، وهو يعني أن البحث في الإشكالات الواقعية هو أولى الخطوات التي لا تجعل من استبعاد التراث أمراً واقعاً مفروضاً ليس في حاجة إلى نظرات التجنّي أو الرؤى الدونية، بل هو أمر أقرب ما يكون إلى منطق "دعوه يموت ونخلص منه"، فيتجاوزه الواقع بمعطياته ومتغيّراته ومستجدّاته كلّها، فيصير الحديث وفق اللغة التراثية وشفراتها ضرباً من استعراض بعض الأفكار المحنّطة الدالّة على زمنها، أو البحث عن (وليس في) الحفريات التراثية. فينزوي التراث، وربّما يتوارى، ونحن نؤكّد أننا نحييه أو ننشره، وهو في واقع الأمر تراث تجاوزه الزمان والعصر والواقع.
ليست صياغات الحاضر إلا نتاجاً لعلاقتنا بتراثنا في الذاكرة وعملنا في الواقع
ومن غير "الوصل" و"التواصل" مع التراث (وصل بالواقع وتواصل بالبحث والدراسة)، لن تكون هناك مكنة "الاتصال" بالتراث، وتصير القطيعة مع التراث ليست مجرّد موقف فكري، بل حالة واقعية يصعب (وربّما يستحيل) الانفكاك من أسرها أو الانعتاق من تصوّراتها ومآلاتها، فصياغات الحاضر ليست إلا نتاجاً لعلاقتنا بتراثنا في الذاكرة وعملنا في الواقع، وصياغات المستقبل يجب ألا تقف عند إعفاء النفس أو إبراء الذمّة، فنقع في براثن التفسير المؤامراتي، نتبنّاه ونقف عند أبوابه، ونكتفي به وننكفئ عليه، فالتاريخ مليء بألف دليل على وهن الإرادة، وضعف العدّة، وتشرذم القوة والقوى، والتفكير الآني والأناني الضيق. ذلك هو أسوأ اختيار وأوهن تفسير، ضمن شبكة علاقات معقّدة، وشبكة مصالح متداخلة.
قراءة التراث بين قراءات الدفاع والاندفاع، وقراءات التدافع ووعي وسعي السنن، ذلك أنه شاعت في دائرة البحث في مجالات التراث قراءات سمّتها "المنهج الدفاعي"، تارّة بالافتخار وتارّةً بالاعتذار، وتارةً بالتسويغ أو التبرير، تعبّر كلّها عن استخدام المادة التراثية ضمن أنماط تفكير ومناهج تدبير لا تغني ولا تسمن من جوع، إنها بالجملة تراجع للفكر الدفاعي الذي يراوح في المكان والزمان، يجتر القضايا القديمة والمعارك السابقة ويحييها في غير ميدان، بينما يترك الإشكالات الحقيقية في أرض الواقع تعبّر عن حالة من الوهن، لا يجدي معها افتخار أو اعتذار، أو تبرير. ويتساند مع ذلك قراءةٌ انفعاليةٌ اندفاعيةٌ تقرّر وتعمّم وتتّخذ المواقف من غير إعداد أو عدّة. وما بين الدفاع والاندفاع تأتي أنماط من القراءات التي لا تجدي فتيلاً في مواجهة هذه القراءات الدفاعية والاندفاعية، تأتي القراءات التدافعية القائمة على قاعدة من وعي وسعي السنن القاضية لتعبّر عن معاني البحث في عمق الداخل "والقابليات" للوهن المتعلّقة به.
وفق تلك الضرورات البحثية ما يزكّى القراءات التأسيسية والإحيائية، تنوّع القراءات للتراث بتنوّع "حال هذه القراءة" أو "مناهجها" أو "أهدافها وغاياتها"؛ ينظّم بين تصنيفَين أساسيَّين من منظومات القراءة، منظومة القراءات السلبية في مقابل منظومة القراءات الإيجابية، هي أوضح ما تكون، وأبين في تأثيراتها ومآلاتها في مجال العلاقات الدولية، الذي يتعقّد يوماً بعد يوم، ويتشابك زمناً بعد زمن، وتتعاظم معطياته، وتتراكم متغيّراته، فسلبية هذه القراءات قد يُردّ في مجمله إلى إغفال هذا التشابك والتعقّد على نحو اختزالي أو مداخل تبسيط، بينما الإيجابية منها يجب أن تستند إلى وعي لائق بهذا الوضع المتشابك، وسعي مناسب يترجم هذا الوعي لقراءات مهمة لتكوينات الذاكرة التراثية لا تزال تُستدعى ببعض مقرّراتها في أتون عالم معقّد يستدعي التجدّد. ومن أمثلة القراءات الإيجابية، قراءات التأسيس، وقراءة السياق/ المسار، والقراءة الاستراتيجية والحضارية، وقراءة الافتقار، وقراءة الفحص والتأنّي، والقراءة البانية، وقراءة العمران، وقراءة الإنذار، وقراءة الاستثمار، وقراءة الاستحضار، وقراءة السنن، وقراءة العزّة والانتصار، وقراءة النباهة، وقراءة التجدّد والاستمرار، وقراءة التجديد، والقراءة الكاشفة، وقراءات التأصيل والتفصيل، وقراءات التحدّي، والقراءة العالمة، وقراءة المستقبل والاستنفار، وتقابلها القراءات السالبة مثل قراءة الأماني والانتظار، والقراءة الظالمة للنصوص التراثية، وقراءة التخلّي، وقراءات التحيّز، وقراءات التحميل، والقراءة السائرة، وقراءات التبديد وقراءات التقليد، وقراءات الاندثار، وقراءات الاستحمار والقابلية للاستحمار، وقراءات الانكسار، وقراءة المؤامرة، وقراءة الاجترار، وقراءة الإهدار، وقراءة الافتخار، وقراءة الأكفان، وقراءات القبور، والقراءة الهادمة، وقراءة التبني والتغني، وقراءة الاستظهار، والقراءات الآنية، وقراءة الانحدار، وقراءات التسييس.
تستمر القراءة الإحيائية وتتجدّد ما تجدّدت الحوادث، وما استجدّت متغيّرات وما تبدّلت المعطيات
نحن أمام منظومتَين من القراءة، تسهم السالبة منها في قراءات كلّية بمناهج عليلة بأهداف وغايات آنية قصيرة، بينما تسهم الإيجابية فيها بقراءات واعية ودراسات بحثية رصينة، بمناهج متكاملة، بأهداف وغايات كلّية شاملة، ذات عمق حضاري قادر على تقديم أقصى ما تكون عليه القراءة من إحسان وإتقان. إن حال الأمّة الذي يتسم بالاختلاط والفوضى والحيرة، وحال المسلمين الذي يتسم بالضعف والوهن، يوجب التمسّك بالقراءات الإيجابية الواعية التي تسهم في كشف مفاصل صناعة الصورة، والتعامل مع الذاكرة التراثية وتكويناتها ضمن قراءات الاستثمار والاعتبار. إن نظرة متعجّلة من عدم فهم لتأثير التراث في المعاصر، وتأثير المعاصر في التراث وذاكرته ومقدراته، ينبع من عدم إحسان القراءة للخريطة التراثية وحقائق توظيفها واستثمارها.
يمكن الادّعاء إن القراءة الإحيائية بما تتضمّنه من قراءة متنوّعة ومتعدّدة، متكافلة ومتكاملة، عالمة وجامعة وفاعلة، هي قراءة بعد هذه الأوصاف كلّها مستمرّة ومتجدّدة ما تجدّدت الحوادث، وما استجدّت متغيّرات وما تبدّلت المعطيات. تجدّد القراءة لا يعني بحال قراءات التجاوز المنفصلة، بل هي قراءة ممتدّة متصلة واصلة بين التراث والعصر، والعصر والتراث، وتتحرّك صوب قراءة التراث ضمن التحوّلات والمتغيّرات، وتعرف عناصر الثابت الذي لا يتغيّر، والمتغيّر الذي لا يثبت على حال، وإن حال تغيير الثابت أو تجاوزه، وتثبيت المتغيّر الذي تتجدّد من خلاله الحادثات والنوازل إنما يحرّك جملةً من القراءات الخطأ، وقد تتحوّل إلى قراءات خاطئة أو قراءات الخطيئة. ومن المهم أن نشير هل القراءات الإحيائية هي مجرّد قراءات ردّات الفعل حول متغيّرات ومعطيات لم يعد يسهم فيها عالم المسلمين إلا من خلال استدعاء ذاكرة حضارية وتراثية أسوأ استدعاء، ضمن صناعة الصورة تزييناً وتشويهاً، سواء أتى ذلك من الداخل أو من الخارج، من دراساتٍ بحثيةٍ ونظرية، أو من ممارسات انفعالية... وربّما افتعالية. يحتاج الأمر إلى تأسيس عناصر القراءات الإحيائية ذات الطبيعة المبادرة في التقويم والتوظيف، وإمكانات الاستفادة البحثية من المادة التراثية، والإمكانات التي تطرحها الخريطة التراثية في العرض العادل للصورة، وبناء الصورة وإعادة بنائها ضمن رؤىً عميقةٍ قابلةٍ للاستثمار نظرياً وواقعياً.

أخبار ذات صلة.
