
في خطوة رائدة قد تعيد رسم مستقبل أبحاث الأمراض العصبية التنكسية، طور فريق من الباحثين في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان (EPFL) نظام تصوير ذاتي القيادة يعتمد على الذكاء الاصطناعي، يستطيع رصد تجمّع البروتينات الضارة وتشخيصها داخل الخلايا الحية، بل التنبؤ بحدوثها قبل أن تبدأ.
تمثل هذه البروتينات غير المطوية بطريقة صحيحة (Misfolded Proteins) أحد العوامل المحورية في تطور أمراض مثل ألزهايمر وباركنسون وهنتنغتون، وهي أمراض تزداد انتشاراً مع التقدّم في العمر وتفتقر حتى اليوم إلى علاجات فعالة، وفقاً للدراسة التي نشرت يوم 24 يوليو/تموز الماضي في مجلة Nature Communications.
لا تختلف البروتينات التي تتجه نحو التجمعات السامة ظاهرياً عن البروتينات السليمة، كما أن عملية التجمع نفسها تحدث عشوائياً وسريعاً، على مدى دقائق فقط. هذه السمات تجعل من الصعب على الباحثين رصدها في الوقت الفعلي، أو التدخل في وقت مبكر. لكن الفريق البحثي السويسري قلب هذه المعادلة.
تقول المؤلفة المشرفة على الدراسة، ألكسندرا رادينوفيتش (Aleksandra Radenovic)، رئيسة مختبر البيولوجيا النانوية في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان: "لأول مرة، أصبح بإمكاننا التنبؤ بدقة بلحظة تكون هذه التجمعات البروتينية. تمثل هذه اللحظة الدقيقة مفتاح فهم تطور الخلل في الخلايا، وهي مرحلة حاسمة إذا أردنا تطوير تدخلات علاجية فعالة".
في البداية، طوّر الفريق خوارزمية تعلم عميق قادرة على رصد التجمّعات البروتينية الناضجة في صور خلايا حية غير موسومة بأي صبغات. بعدها، حدّثوا الخوارزمية لتصبح قادرة على تحليل الصور في الزمن الحقيقي.
بحسب رادينوفيتش التي أوضحت في تصريحات لـ"العربي الجديد" أنه عند رصد تجمع بروتيني، تفعل الخوارزمية ميكروسكوب بريليوان لتحليل الخصائص الميكانيكية الحيوية للبروتين، مثل المرونة. هنا، يُشار إلى أن الميكروسكوب المستخدم بطيء مقارنة بسرعة حدوث التجمعات، لكن باستخدام الذكاء الاصطناعي، يُشغَّل في اللحظات المهمة فقط، ما يقلل الوقت ويزيد الكفاءة.
هذه الآلية تتيح تصويراً ذكياً وفعالاً من دون الاعتماد الكثيف على المواد الكيميائية أو الصبغات الفلورية التي قد تؤثر على الخلايا. تعلق رادينوفيتش على أهمية ذلك بالقول: "هذا المشروع جاءت به رغبة في تطوير أدوات تكشف خصائص بيولوجية جديدة لم تكن ممكنة من قبل، ونحن متحمسون لرؤية هذه الرؤية تتحقق".
لم يكتف الفريق برصد التجمعات بعد حدوثها، بل طوروا خوارزمية ثانية يمكنها التنبؤ بلحظة بداية التجمع؛ إذ دُرّبت هذه الخوارزمية على صور لبروتينات وسمت بصبغات فلورية، وهي قادرة على التمييز بين صور متطابقة تقريباً، والتنبؤ بموعد حدوث التجمع بدقة تصل إلى 91%.
بمجرد أن تكتشف الخوارزمية هذه اللحظة، يعاد تشغيل ميكروسكوب بريليوان مرة أخرى لتصوير العملية لحظة بلحظة، في مشهد يشبه ما وصفه الفريق بـ"شهود ولادة تجمع بروتيني لأول مرة".
ترى الباحثة أن ما أنجزه الفريق لا يقف عند حدود التقنية، بل يمتد إلى إمكانيات واسعة في مجال الطب الدقيق وتطوير الأدوية. وتقول إن هذه الأدوات تفتح آفاقاً جديدة تماماً لفهم ومراقبة تجمعات البروتينات السامة الصغيرة، التي يعتقد أنها السبب الجذري في كثير من أمراض التنكس العصبي. تضيف قائدة فريق البحث في الدراسة أن القدرة على التصوير من دون صبغات تتيح للفريق دراسة هذه البروتينات كما هي في بيئتها الطبيعية، ما يجعل الباحثين أقرب إلى تطوير علاجات أكثر دقة وفعالية.
يعكس هذا المشروع تطوراً جوهرياً في عالم الميكروسكوب الذكي، إذ إن النظام الذي طوره باحثو EPFL لا يكتفي بجمع البيانات بل يتفاعل معها، ويقرر متى وأين يركز النظر، ويفتح الباب لتقنيات جديدة في التشخيص والتدخل المبكر، وفقاً للدراسة.
تقول رادينوفيتش: "هذه أول دراسة تظهر القوة الحقيقية للأنظمة ذاتية القيادة في مجال التصوير الخلوي، خصوصاً عند الاستغناء عن الوسوم الكيميائية. نأمل أن تساهم هذه التقنية في تعميم استخدام التصوير الذكي في المختبرات البيولوجية حول العالم".
