
فجّر رحيل زياد الرحباني حبنا له. فاضت الكلمات والشرائط والصور والمقابلات والأغاني على أثره. كلٌّ يصف ذاك الحب بعباراته... حتى الذين تجاهلوا موته، وبدل أن يرثوه، كتبوا فقط عن فيروز والدته. أحدهم بدأ مقاله بالقول إن "فيروز تبلغ اليوم التسعين من عمرها"، يحتفل بعيد ميلادها، الذي يقع في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني.
على نقيض هذا المتجاهل، برزت كتلة أطّرتها مجموعات يسارية، أو نسّقتها، لا أعلم... في حيّ الحمراء البيروتي. حيث نُظّمت جنازة زياد الرحباني "الشعبية". المشاركون فيها انتظروا خروج جثمانه من المستشفى ومشوا خلف نعشه بالأرز والورود، صفقوا وبكوا وزغردوا وأذاعوا أغانيه وموسيقاه. ثم انتقل الجثمان إلى الجبل، إلى كنيسة قرية المحيْدثة ــ بكفيا. هناك والدته فيروز، تسندها ريما شقيقته. تطلب الاختلاء بتابوته هي وريما، تصلّي على جثمانه، تتقبل التعازي، تشارك في قداس الصلاة عن روحه. ويكون إلى جانبها وزير الثقافة غسان سلامة، ويمرّ المعزّون، غالبيّتها شخصيات عامة سياسية فنية إعلامية ثقافية. أي من "النخبة".
وَلّدت التناقضات على مدى أعمارنا خليطاً متواصلاً من الثنائيات، صاغت شخصيتنا، علاقتنا بغيرنا، ببلدنا، بالهجرة. يختزلها زياد بتجسيدها فنّاً
كثيرون علقوا على هذا الفرق الشاسع بين صورتين: حي الحمراء في العاصمة، حشد المواطنين "العاديين"، من الشعب، ونفحة رومنطيقية نضالية، يتقدّمها أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني، حنّا غريب. صورة المدينة، إذن، بوجه صور القرية الجبلية، ببيوتها الميسورة، وجمالها ونقاء هوائها وأناقة نسائها. حيث "النخبة" القادمة بسيارات فخمة نظيفة وهندام مدروس ومرافقين ومراسلين يحاولون أخذ كلمة واحدة بهذه المناسبة. وجميعهم تتربّع عليهم فيروز.
من بين الذين علقوا على الصورتين، ثمة من ذهب بعيداً جداً. منهم كتاب كانت لهم أحكام على الجنازتين: جنازة الحمراء وجنازة المحيْدثة. قال الأول: في الحمراء "أصدقاؤنا الخلص، يشبهوننا في كل شيء". وأما في المحيدثة: فكأن "خنجر (المعزّين) تحت ثوب الحداد... ظهروا كي يشمتوا ويتأكدوا". قال الثاني متوتراً عن جنازة المحيدثة: "اجتمع اللص مع النصاب مع السافل مع العاهرة مع المنحطّ مع العميل مع السمسار مع الانتهازي مع المرتزق مع "الناشط" مع قناص الفرص مع مهووس الضوء... في وداع المقاوم الثقافي الأول". وباللهجة نفسها، كاتب آخر نادى زياد من وراء قبره، وقال له "كل الفاسدين جاؤوا يعزون بك يا زياد". بالعبارات الشبيهة لتلك الواردة أعلاه، والحماسة نفسها (لا يسع هذا المقال لكل عباراته).
الأخير من بينهم أطلق الممنوعات، هي ربما الأطرف: فقال إنه "ضدّ أن تُكرِّس محطّات مشبوهة ومأجورة ومتصهينة فقرات خاصّة بزياد". وإنه "ضدّ أن تُعلّق نياشين على تابوته مِن قِبل الدولة". وإنه "ضدّ أن يُشار إلى تراثه بـ"الإرث الرحباني". وضدّ أن يُقال إنّه "عبقري". و"ضدّ أن تُغنَّى أعماله بعد موته". و"ضدّ أن تتبنّاه المؤسّسة الدينيّة كما فعلوا بعد جبران خليل جبران". و"ضدّ أن يصبح بعد وفاته أيقونة لبنانيّة"... (لائحة الممنوعات لا تسع هنا أيضاً).
هكذا انقسم الجو بين جنازة الحمراء "الطاهرة" وجنازة المحيْدثة "الفاسدة". ولم يشفع لهذه الأخيرة أن فيروز، والدة زياد، كانت في صدارتها. ولهذا الانقسام، توابع، ظهرت مبكّراً، في تناول ألحان زياد ومسرحياته وأقواله... وتحليل مضمونها.
أتخيّل أن زياد الرحباني الآن، من خلف الموت، يضحك علينا، وسيخترع اسكتْشاً، أو نكتة رنّانة، أو ربما أغنية. وفي عمله هذا سوف يحزن أيضاً، لأن أصدقاءه الذين يعتبرون أنفسهم "خُلّصاً" لم يفهموا أن روحه تقع في مكان آخر. مع أنهم يشعرون بها.
إنها روح الصداقة. ما من أحد إلا وعبر عن زياد أنّه "صديق". إلا قلة قليلة، أوضحت أنها لا تحبّه ولا تحبّ فنه ولا ترى لزوماً لكل هذا "الضجيج"... كلهم توسّلوا هذه الصداقة، سواء أكانوا قدماء أم محدثين، متقطعين أم منتظمين، التقوه ساعة أو ساعتين، أو حتى ربما لم يلتقوه. جميعهم يشعرون بصداقته، التي يبادلهم بها من دون أن ينطق بها.
لماذا نحبّ زياد؟ ما الذي جمع "الأشرار والأخيار" على وداعه والحزن عليه؟ لو طرحنا السؤال قبل وفاته لجاء مختلفاً عن الآن. مثل كل البشر، اكتمل معنى زياد في لحظة وفاته. لم يعُد هناك احتمال أن يضيف إلى سجلّه ما يدعم هذا المضمون أو ذاك. صارت له قصة ببداية ونهاية. والبداية أمْلَت على النهاية شروطها، كما أن النهاية أكملت دورة البداية، فصارت أمامنا اللوحة أو القصة بإطارها وتفاصيلها.
زياد الرحباني كان صديقنا. والصديق الحق هو الذي يعلمك الضحك على نفسك
الآن، بعد وفاته، باتَ الموضوع واضحاً: زياد الرحباني نحبّه، لأنه يشبهنا، مع الفرق بدرجة خيال ووعي أعلى من تلك التي نتمتّع بها. كل شيء من إرثه يحمل التناقضات التي حكمت مشاعرنا وربما آراءنا حول بلدنا، حول أنفسنا، حول الوطن، حول الحب. كأنه عينٌ ساطعة تعكس صورتنا. وهذه التناقضات وَلدت على مدى أعمارنا خليطاً متواصلاً من الثنائيات، صاغت شخصيتنا، علاقتنا بغيرنا، ببلدنا، بالهجرة. زياد يختزلها بتجسيدها فنّاً: بريء ومخطئ، خفيف وثقيل، مبتهج وحزين، موحش ومؤنس، غريب ومألوف، مفرْفش ومنقبض.
كما لو كان يرسم خطوط حيواتنا: نعشق بلادنا. تخيّب هذه البلاد أملنا. ثم نكرهها، ونتمنّى لو اختفت من الوجود، فنرحل منها، ولا نعود نبالي... حتى تأتي شعلة نار الحنين ويعود الحب فيستيقظ ومن بعده الخيبة والكراهية والهجرة... وهكذا دواليك.
زياد الرحباني كان صديقنا. والصديق الحقّ هو الذي يعلمك الضحك على نفسك. بالقدر الذي يضحك هو على نفسه. رافقنا طويلاً في جلجلة وطننا. من أجلنا خلق لها الأغاني والمشهد والكلمة، فكان هبة لبنان.
"رح نبقى سوا"، زياد ونحن ولبنان.
