
أثارت قائمة قدّمها مجلس الوزراء إلى البرلمان العراقي للتصويت عليها، وضمّت 91 سفيراً جديداً، موجةً من الانتقادات والاعتراضات، بعد تسريب الأسماء للصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ شملت أقرباء زعماء سياسيين متنفّذين وأنسباءهم وأبناءهم، الأمر الذي عدّه كثيرون نوعاً من المنافع الاجتماعية، لا تمثيلاً للعراق في مناصب دبلوماسية حسّاسة. بينما رأى آخرون أنّ هذا التحاصص الحزبي في السفراء يلغي إمكانية ارتقاء الكفاءات في مواقع متقدّمة لصالح المحسوبية.
أثيرت المشكلة طبعاً لأنّ نواباً مَن سرّبوا قائمةَ هؤلاء السفراء، إمّا لاعتراضٍ منهجي، أو ربّما لأنّ هذه الأطراف استُبعدت من مائدة التحاصص، وإلّا فإن السفراء السابقين لم يخرجوا من نطاق هذا التحاصص أصلاً، منذ بدأت عجلة النظام السياسي الحالي بالدوران. بل يمكن القول إنّ من "المستحيل" لشخصيةٍ ما، مهما بلغت من المهنية والكفاءة، أن ترتقي إلى منصب دبلوماسي رفيع من دون ذراع سياسية رافعة. وهذا يكاد يشمل كلّ شيء، فالمحاصصة في العراق ليست بين الشيعة والسنّة والكرد بالعناوين العامّة، وإنّما بين الأحزاب صغيرها وكبيرها. وأيّ سنّي وشيعي وكردي خارج دائرة الأحزاب، حتى لو كان جيفرسون في السياسة، أو أينشتاين في العلم، لن يحصل على منصب مدير عام وما فوق.
لا ترد هذه المحدّدات في الدستور العراقي، وإنّما جاءت من "العرف" السياسي الذي بدأ بعد 2003، لاستيعاب الحساسيات الطائفية والعرقية، وكانت مقبولةً في البداية، باعتبارها جزءاً من "الوضع الانتقالي" في البلد، ريثما تترسّخ أقدام المؤسّسات الجديدة، وتبدأ الماكينة الداخلية للدولة بالعمل. وحينها يُفترض بهذه الماكينة، بما فيها من قواعد بيروقراطية وقوانين خاصّة، أن ترفع الكفاءات إلى المناصب العليا، وتحفّز المواهب والطاقات الشابّة على العمل والاجتهاد للارتقاء في المناصب والمسؤوليات، لا أن يكون المنصب مجرّد ضربة حظّ لشابّ مقيم في دولة أجنبية ليست لديه أيّ خبرة سياسية أو دبلوماسية لينال منصب سفير للعراق في البلد الذي يقيم فيه أصلاً، لا لشيء، إلّا لأنّ المنصب من حصّة الحزب الذي يمثّله والده.
ولأنّه عُرف راسخ يملك سطوة القانون، فإنّ أفعال الشخصيات التي ترشّحها كتلها السياسية للمناصب هي "ما وراء الخير والشرّ". وقد حصل أكثر من مرّة أن تثبت على شخصيةٍ ما تهم فساد وسرقة للمال العام، فينقله الحزب إلى منصب آخر، بدل ترك الإجراءات القانونية تأخذ مسارها فيُقدَّم إلى المحاكمة.
عقوبة الفساد وهدر المال العام والسرقة هي "الإقالة"، لا السجن أو المحاسبة، ثمّ يقوم الحزب باستثمار "كفاءة" هذا الشخص في منصب جديد. ولأنّ الجميع يفعل ذلك، فلا أحد يستحي من الآخر لأنّه يحمي الفاسد التابع له، ولا أحد يعترض على تهميش دور الدولة لمصلحة الأعراف السياسية، لأنّ الجميع متّفقٌ على تهميش الدولة. ولذا، وعلى خلفية الاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة، فإنّ أيّ حديث عن إصلاحات شاملة في النظام السياسي العراقي ومؤسّسات الدولة هو مجرّد عبث وضحك على الذقون.
صعوبة بناء دولة قوية مع آليات النظام الحالي في العراق نابعة أساساً من هذه المنظومة التي شكّلتها الأعراف السياسية. فالكيانات السياسية ممثّلة لطوائف وأعراق، وتتشارك كلّها (بعد الانتخابات) مغانم السلطة والحكومة، فلا وجود لأحزاب بالمعنى المتعارف عليه عالمياً. فالحزب يتحدّث باسم الأغلبيات والأقليات، ولكن المنافع لا تذهب إلا لفئة قليلة من أتباع الحزب، ولا وجود لتقسيمات السلطة والمعارضة داخل البرلمان. وبما أنّهم جميعاً في السلطة، فالجميع "يطمطم" على الجميع، ويبارك للجميع مكاسب ومنافع السلطة، بينما الدولة تبقى مهلهلةً وضعيفةً وغير قادرة على الوقوف على رجليها من ذاتها، ومن منظومتها الداخلية.
ليست مراعاة التنوّع في مكوّنات المجتمع في المناصب العليا خطأً، ولكن الخطأ (والجريمة) ربّما أن تبقى منظومة الأحزاب هي البديل من الدولة. وحينما نقول الدولة، فلا نعني المقارّ والمؤسّسات والإجراءات اليومية التي تقوم بها، وإنّما سلطة القانون التي تحكم المؤسّسة، وتحاسب وتراقب وتفرز الكفاءات التي ترتقي إلى الأعلى. وهي سلطة يُفترض أن تكون باقيةً وأكثر رسوخاً من نفوذ الأحزاب، التي تتغيّر ويتبدّل تأثيرها حسب الظروف، داخل أيّ نظام ديمقراطي حقيقي.
