
نيويورك مزيجٌ متناقضٌ من الجاذبية والسّأم، من النّشوة والخوف، مدينةٌ يحلم العالم كلّه بالوصول إليها ويتخيلها مدينة الفرص والتّطلعات الكبرى. هناك شيءٌ لا يقاوم في هذا المكان، شيءٌ يجذب الغرباء من كلّ ركن من أركان الكوكب بحثًا عن تحقيق الذات أو حتى مجرد أن يكونوا جزءًا من الحدث فيها.
شبّهها الروائي الأميركي بول أوستر في روايته "ثلاثية نيويورك" بالمتاهة الوجودية والمشي في شوارعها يشبه سردًا غامضًا لا ينتهي، نصًا مفتوحًا مليء بالأسئلة حيث تختفي الهوية وسط زجاج المباني العاكسة والأبواب المغلقة فيقول واصفًا إياها بعيني دانيال كوين بطل الجزء الأول منها: "كانت نيويورك فضاءً لا ينضب، متاهة من خطوات لا نهاية لها، ومهما مشى، ومهما تعمق في معرفة أحيائها وشوارعها، كان دائمًا ما يتركه يشعر بالضياع"، أي أن نيويورك تعمل كمشهد نفسي رمزي تؤثّر على الشخصيات وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة والشخصية كانت تستخدم المشي وسيلة تهدئة ذاتية عبر امتلائها بالخارجيّات. ولعل من مشى في شوارع نيويورك يعلم مدى دقة هذا الوصف.
لكنه أيضًا، احتفى في إحدى مقابلاته بفرادة نيويورك بوصفها مدينة تتجاوز حدود الانتماء الجغرافي، وذهب إلى حدّ التمني أن تنفصل عن الولايات المتحدة لأنه يراها "صورة مصغّرة للعالم كلّه" لا لأميركا فقط، ورغم أنها ظلت دومًا معلّقة بين قطبي الإعجاب والنفور في نظر أهل أمريكا أنفسهم، إلا أن حشودًا من الشباب في سائر الولايات يحلمون بفرصة للقدوم إليها.
تؤثّر نيويورك على شخصياتها وتروّج لعزلة داخلية واغتراب هويّة
نلحظ هذا الاغتراب الوجودي الذي ذكره أوستر عند الجيل الأول من أدباء المهجر العربي، الذين سكنوا نيويورك أواخر القرن التاسع عشر، في الحي السوري أو "سوريا الصغرى"، كتبوا فيها عن الوطن المفقود وعن الروح القلقة وعن الله والطبيعة والانبعاث الداخلي، ورغم سطوتها البصرية وانفتاحها الحداثي لم تكن ملهمة لهم، بل كانت مثقلة بهموم الغربة والانفصال، لم تكن موضوعًا يُفتَنون به أو يرمزون له، بل كانت كأنها مشهد جانبي في حكاية أعمق تُروى من الداخل. فجبران خليل جبران مثلاً، لم يذكر نيويورك مباشرة في مؤلفاته الأدبية، بل تسرّبت المدينة فقط في رسائله الخاصة إلى ماري هاسكل إذ وصفها بـ"المكان الغريب" الذي يفرض على المرء أن "يبدأ بالاجتماعي وينتهي بالمهني" من بين تفاصيل يومية أخرى تتعلق ببحثه عن شقة يسكنها. كذلك بقية أعضاء الرابطة القلمية مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ظلّت المدينة غائبة عن نثرهم وشعرهم وكأن نيويورك لم تكن قادرة بعد على اختراق ذاكرتهم الأدبية المعلّقة بين الجبل والضيعة بين بيروت والشام لا بين برودواي ومانهاتن. كانوا هاربين من نوع آخر من المتاهات، متاهة القمع وتكميم الحريات، في ظل الحكم العثماني التي طاولت أجيالاً كثيرة، ومنظمة الرقابة والتجسس التي كانت تلاحق المفكرين والسياسيين، وزعماء الإصلاح والصحافيين، وتراقب الجرائد، ومع بدء الاحتلال الفرنسي كان طريق الخلاص أمام الناس عموماً آنذاك إما الثورة أو الهجرة التي لم تكن حقيقة هجرة بالمعنى المتعارف عليه، بل كانت فرارًا جماعيًا لمن استطاع سبيلاً.
أما أعداد مجلة "كوكب أمريكا"، أول مجلة عربية في المهجر الأميركي التي أسسها نجيب عربيلي من عام 1892، فهي غنية بالقدر الذي يعطينا فكرة وافية عن تلك الحقبة، وقد تناولت شؤون المهاجرين العرب في الولايات المتحدة، وقضايا الدولة العثمانية، كما ناقشت موضوعات الهوية والدين والإصلاح والنهضة، وسعت إلى أن تكون جسرًا ثقافيًا بين المهجر والشرق العربي وقد حمل عربيلي فكرًا عروبيًا تنويريًا، مؤمنًا بالحرية ومعارضًا للاستبداد العثماني، فدافع عبر صحيفته عن حقوق العرب وربطهم بقضايا أوطانهم، مما جعله من أوائل من أسّسوا لخطاب الهوية العربية الحديثة في المهجر.
ظلت نيويورك غائبة عن شعر الجيل الأول من أدباء المهجر
وعند تصفح أعداد الجريدة نجد أخبار السلطنة العثمانية والسفينة المنطلقة من بيروت وأسماء ركابها وإعلانات وأحداث محلية عن المدينة وعن بقية المدن الأميركية وأحداث وقعت في مصر ولبنان وسورية، وفي باب "الوقائع" مثلاً نجد ملخص الجلسة الثامنة لجمعية الشبان السوريين في نيويورك التي تأسست في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1895، وتحت باب "صدى جرائد الشرق" عرض لأخبار من جرائد المشرق العربي في نصٍ سرديّ واحد، من جرائد الأهرام، الآداب، حديقة الأخبار، طرابلس الشام، لسان الحال، الهلال، وغيرها "اشتد البرد في مصر وأمطرت السماء رذاذًا وأوحلت الأزقة حتى امتنع فيها السلوك. ظهر داء الجدري في عكّا [..] دخل أحد الصوص إلى مكتب مدير جريدة الأحوال في بيروت فسلب بعض أشياء خفيفة". وفي أخبار العالم نرى أخبارًا من باريس والصين وبنما وباراغواي وبطرسبورغ وغيرها من البلدان، وكان لها إسهام هام في المحافظة على اللغة العربية والتجديد في الأدب العربي، والتعبير عن الذات بحرية، كما كانت ميداناً لأقلام الكتاب والشعراء إن كانت أعضاء الرابطة القلمية أو العصبة الأندلسية في أمريكا الجنوبية (البرازيل).
توقّف صدور المجلة عام 1908، ومعه خفت صوت ذلك الجيل الأول من المهاجرين العرب الذين حملوا همّ الكلمة والهوية في المنافي، بينما لم يتمكّن الجيل التالي من الشباب العربي في المهجر، من إنتاج مشروع مماثل، بل لم يجد نفسه حتى منخرطًا في أيّ من الصحف العربية التي ظهرت آنذاك، كان يعيش واقعًا مختلفًا تمامًا عن آبائه، واقعًا طبعته الحرية لا القمع، والرخاء لا القسوة، جيلٌ لم يرث معاناة المنفى، بل ورث آفاقه الجديدة، ولذلك لم يعد يكتب من موقع الدفاع أو البحث عن هوية.
ولعلّ ما بقي من تلك الحقبة الأدبية بامتياز هو محاولة استذكارها في المكان، ففي حديقة إليزابيث برجر يجري تنفيذ مشروع فني دائم يُكرّم الإرث الأدبي لـ"سورية الصغرى" بعد اثني عشر عامًا من الجهود المتواصلة، ليكون هذا أول نصب تذكاري في مدينة نيويورك يُكرّم مجتمعًا تاريخيًا في حديقة عامة. صمّمت المشروع الفنانة الفرنسية المغربية سارة أُحدّو بعنوان "القلم: شعراء في الحديقة"، بالقرب من موقع الحي السوري قديمًا على شارع واشنطن، وقد بدأ تنفيذه منذ عامين ولما ينتهِ بعد، ويتكوّن من منحوتة برونزية ذهبية اللون بطول يقارب تسعة عشر قدمًا وارتفاع يصل إلى سبعة أقدام تمثل كلمة "القلم" باستخدام أبجدية تجريدية غير مقروءة من ابتكار الفنانة، ومقعدين طويلين في الحديقة ستُزيَّن ظهورها بفسيفساء ملوّنة من نفس الأبجدية المجرّدة، تُجسّد رمزيًّا مقاطع من أعمال كتّاب سورية الصغرى مع أسمائهم على خلفية ذهبية.
