الصور الملكية... العائلة البريطانية كما أرادت للعالم أن يراها
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

في صورة مؤرخة من عام 1953، بعد أسابيع قليلة من تتويجها، تقف الملكة إليزابيث الثانية بكامل هيبتها، ترتدي التاج الإمبراطوري وتحدّق في العدسة كما لو كانت تُحدّق في التاريخ نفسه. لكن ما يشدّ النظر حقاً هو الضوء، فثمة ضوء ناعم يتسلل من طرف الكادر، كما لو أن المصور، سيسيل بيتون، لم يكن يوثق لحظة رسمية بقدر ما كان يصوغ مشهداً أسطورياً عن الملكية.
بهذه الصورة وغيرها، يفتتح معرض "الصور الملكية: قرن من الفوتوغرافيا" المقام في قصر هوليرودهاوس في إدنبرة، رحلة تأمل طويلة في الطريقة التي أرادت بها العائلة الملكية البريطانية أن تُرى، أو تُتَذكر، منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم. لكن المعرض المتواصل حتى السابع من سبتمبر/أيلول المقبل، لا يكتفي بتقديم صور أيقونية لأفراد العائلة المالكة، بل يغوص في العلاقة المعقّدة بين الكاميرا والسلطة، بين المظهر العام والهويات الخاصة، وبين البورتريه الملكي بوصفه أداة للتاريخ، ومرآة لأوهامه أيضاً.

منذ أن بدأت العائلة الملكية البريطانية باستخدام التصوير الفوتوغرافي في أواخر القرن التاسع عشر، تحوّلت الصورة إلى وسيلة حديثة لترسيخ شرعية التاج، وتحديث رمزيته في أعين الرعية. لم تعد الهيبة تُبنى فقط على المراسيم والبذخ، بل على قدرة الصورة على الانتشار والتأثير. وخلال القرن العشرين، ومع التحولات السياسية الكبرى، من انحسار الإمبراطورية إلى صعود الإعلام الجماهيري، أصبحت الصورة الملكية مزيجاً من البروتوكول والبروباغندا، في توازن دقيق بين إظهار القرب من الناس والحفاظ على المسافة الرمزية التي تميّز الملوك من سواهم. وفي هذا المعرض، يمكن تتبّع تطور هذا التوازن بدقة، من الصور الرسمية ذات الطابع المسرحي في حقبة الملك جورج الخامس، إلى البورتريهات الحميمة التي التقطها أنتوني آرمسترونغ جونز للأميرة مارغريت، والتي كشفت جانباً إنسانياً نادراً من داخل القصور. كل صورة تبدو، في نهاية المطاف، كأنها مفاوضة صامتة بين السلطة والمظهر، بين ما يُقال علناً وما يُترك للظل. 
لكن تاريخ الصورة الملكية لا يُكتب فقط من خلال الملوك والملكات، بل أيضاً من خلال العدسات التي صاغت ملامحهم. ومن أبرز ما يتيحه المعرض، هذا الحوار غير المباشر بين أنماط فوتوغرافية متباينة، تجمع بين التبجيل والتجريب. فالمصور البريطاني سيسيل بيتون، أحد الأسماء المؤسسة لصورة الملكية الحديثة، كان يصوغ بورتريهاته كأنها لوحات زيتية، تضج بالتكوينات الدرامية والأقمشة الفاخرة والإضاءات المسرحية. في المقابل، نجد آني ليبوفيتز، التي اقتحمت المجال بأسلوبها المتقشف شبه السينمائي، تقترب من الشخصيات الملكية من دون أن تُقدّسها، كما في صورتها الشهيرة للملكة إليزابيث الثانية عام 2007.
أما المصور رانكن؛ فمثّل الجيل الأحدث من المصورين الذين تعاملوا مع أفراد العائلة المالكة بوصفهم مشاهير أكثر من كونهم ملوكاً، مجرّدين من الثقل الإمبراطوري، ومقرّبين من لغة الثقافة البصرية الشعبية. وبين هذا وذاك، تأتي صور لورد سنودن، المصوّر الذي تزوج من الأميرة مارغريت، بوصفها الأكثر حميمية وتوتراً؛ لقطات تكاد تُخفي سلطتها خلف لمسة شخصية، أشبه برسائل خاصة من داخل العائلة. تجمع هذه العدسات رؤى متباينة للعائلة ذاتها، لكنها تكشف ما هو أعمق، وهو أن الصورة الملكية ليست مجرد توثيق لحظة، بل إنتاج متقن لأسطورة مستمرة.

لكن الصور الملكية، مهما بلغت دقتها وجمالها، لا تعني اليوم للجمهور ما كانت تعنيه قبل عقود. ففي زمن يتدفّق فيه المحتوى البصري عبر الشاشات بلا توقف، وتُصوّر فيه العائلة المالكة البريطانية في كل مناسبة وعبر عدسات الصحافة الصفراء وتُنشر عبر سائل التواصل الاجتماعي، لم تعد الصورة الرسمية وحدها تحتكر صناعة الرمزية، بل إن بعض الصور الأيقونية الحديثة، أو حتى تلك التي التُقطت بحرفية عالية، تُستقبل أحياناً بكثير من الشك أو السخرية، في ظل وعي متزايد بمسرحة السلطة وتصنيع المظهر.
لذلك، لا يقدّم المعرض فقط سجلاً بصرياً للوجوه الملكية، بل يثير سؤالاً ضمنياً حول من يرى هذه الصور اليوم؟ وكيف يستقبلها جمهور أكثر انفتاحاً، وأقل انبهاراً بفكرة النَّسب واللقب؟ قد يجد الزائر نفسه منجذباً إلى الصور القديمة، وليس إلى رمزيتها؛ إذ هي بالنسبة إلى المُتفرّج وثائق من زمنٍ ساد فيه الإيمان بالشكل، بينما تُقرأ الصور الأحدث من منظور يختلط فيه الفضول بالريبة، والحنين بالنقد. هذه الصور، التي التقطت على مدار 100 عام، لا توثق ملامح الأفراد فحسب، بل تحكي قصة مؤسسة تسعى دوماً إلى تجديد رمزيتها، وترويض الذاكرة الجماعية من خلال الفوتوغرافيا.
لكن، وسط التحولات العميقة في علاقة الجمهور بالسلطة، وفي عصر تُستهلك فيه الصور وتُنسى بسرعة، هل لا تزال الصورة الملكية قادرة على أن تصنع أثرها كما كانت تفعل في السابق؟ أم أنها باتت اليوم مجرد فصل آخر في تاريخ طويل من محاولات الظهور على نحوٍ مثالي، حتى حين تهتز الهالة؟ لعلّ ما يكشفه هذا المعرض، هو أن السلطة، مثل الصورة، لا تبقى على حالها، لكنها تحاول دائماً، أن تظهر كما لو أنها كذلك.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية