
تأمّل كثيرون في زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، روسيا قبل أيام، ولقائه مسؤوليها، وفي مقدّمتهم رئيسها فلاديمير بوتين، مصنّفين هذه الزيادة في خانة التصالح مع دول العالم الذي تنتهجه السلطة السورية بعد سقوط نظام الأسد الذي أدخل البلاد في عزلة دولية. وتندرج هذه الزيارة في خانة نهج تتبعه السلطة في الرهان على الدول العربية وبقيّة الدول، من أجل الأخذ بيدها للخروج من أزمات موروثة وأخرى بعد السقوط، نشأت نتيجة عدم حسم الخيارات تجاه المضي في معالجة تركة الأسد، وعدم اتباع خيّارات مغايرة لخياراته في التصالح مع الشعب والتركيز في حلّ مشكلاته الحياتية والمعيشية والخروج من حالة الانغلاق والمراوحة في المكان، ما أدّى إلى بقاء أسباب التأزم من دون معالجة.
لا يحتاج المراقب كثير تبصّر لكي يرى توجُّه الحكم في سورية نحو الاعتماد على الدعم الخارجي، عبر الرهان على الخارج من أجل إعادة بناء الاقتصاد السوري، وبالتالي، تغيير أوضاع البلاد بعد سنواتٍ من الخراب الذي أورثه الأسد الهارب للسوريين. وكان من جديد تمظهرات هذا النهج المؤتمر الاستثماري السوري السعودي، الذي اختُتم قبل أيام في دمشق، وصدرت منه توصيات، وخطط لاستثمار ما يزيد عن ستة مليارات دولار في سورية، التي ما تزال تواجه تحدّيات كثيرة. وعلى الرغم من أهمية هذا المنتدى، فإن فيه (في ظلّ البنية التحتية المدمّرة واستمرار بؤر التوتّر) يختلط الفرح مع المخاوف من ألا تجد الاتفاقات المُوقّّعة طريقها إلى التنفيذ في أرض الواقع، نتيجة المعوقات ذاتها من توتّر أمني في عدّة مناطق، وبقاء كثير من العقوبات الغربية، والتهديد بإعادة عقوبات أزيلت في حال استمرّ النظام في المعالجة الأمنية للمشكلات المناطقية والطائفية. ويأتي هذا في الوقت الذي يُعوِّل فيه السوريون على إصلاح ما يمكن إصلاحه من قطاعات اقتصادية وانتاجية في البلاد، وعقد مؤتمرات للمصالحة الوطنية، وتنفيذ توصيات مؤتمر الحوار السوري، خصوصاً منها المتعلّق بمسألة العدالة الانتقالية، من أجل الإسهام في تعافي البلاد، وتحضير بيئة مناسبة لاستقبال استثمارات كهذه.
قرار إجراء انتخابات مجلس الشعب بآلية جديدة أتى بعدما أدركت السلطة أهمية المجلس وضرورته من أجل تشريع الاتفاقات
ومع توقيع هذه الاتفاقات الجديدة، ينظر السوريون إلى التي سبقتها، ووُقِّعت مع دول كثيرة، ويتساءلون عن سبب عدم سلوكها الطريق سريعاً للتنفيذ، لأهميتها في تحريك عجلة الاقتصاد، والمضي بإعادة الإعمار، خصوصاً ما يتعلّق منها بقطاع الطاقة من نفط وغاز، الضروريَّين من أجل تحسين وضع الكهرباء. ربّما يكون سبب التأخير هو القصور بالتشريعات وبالنصوص القانونية، وبعدم اكتمال بناء مؤسّسات البلاد التشريعية، المخوّلة بإقرار اتفاقات كهذه لتأخذ صفة الشرعية. فانتخابات مجلس الشعب، وبعدما استبعدتها السلطة بسبب بقاء ملايين السوريين في دول ومخيّمات اللجوء والنزوح، عادت وقرّرت إجراءها عبر آلية جديدة، يعيّن الرئيس بمقتضاها ثلث أعضاء المجلس، ويجري انتخاب الباقين، وهو قرار ربّما يكون قد أتى بعدما أدركت السلطة أهمية المجلس وضرورته من أجل تشريع الاتفاقات. ولكن هل هذه الخطوة (وغيرها ممّا نفّذته الحكومة) كافية من أجل الاستفادة من جو الانفتاح الدولي على سورية، وبروز محاولات لمساعدة سورية على التغلّب على مشكلاتها والنهوض؟
حين مات الرئيس الأسبق حافظ الأسد ( 2000)، وحصل التوافق الدولي على تنصيب ابنه بشّار رئيساً، سارع أصحاب رؤوس أموال من دول الخليج، وشركات تجارية وبنوك وغيرها من القطاعات الاقتصادية، إلى سورية لدعمه، أملاً بسورية مختلفة عن سورية الأسد الأب. لذلك عقدوا مؤتمرات مماثلة لمؤتمر الاستثمار السعودي السوري، وأعلنوا عبر مؤتمرات صحافية خططاً استثمارية كبيرة، ولكن ما الذي حصل؟... تعثّرت تلك الخطط، ولم يسجّل أيُّ استثمار عربي في الاقتصاد السوري على مدى السنوات الخمس التي تلت تنصيب بشّار، وسبقت اغتيال رفيق الحريري. أمّا الأسباب فهي أن بشّار لم يقطع مع سياسة والده في التعاطي الأمني مع جميع المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سورية. كما بقيت القبضة الأمنية عبر قانون الطوارئ والأحكام العرفية قائمةً، ولم يُجرِ مصالحةً وطنيةً كانت ضرورية للقطع مع جرائم والده، فهو لم يرث السلطة فحسب، بل ورث معها المعتقلين السياسيين، من يساريين وإسلاميين كان والده قد وضعهم في المعتقلات، خوفاً ممّا يشكّلونه من رمزية بالنسبة إلى المعارضة. إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من بعض التشريعات التي أصدرها بشّار، وتعديلات في قانون الاستثمار رقم 10، بقيت بيئة الاستثمار متخلّفةً مع غياب العمل المصرفي العصري، إضافة إلى القبضة الأمنية والمالية، والتوجّه إلى سيطرة العائلة على الاقتصاد، علاوة على العقوبات الدولية التي لم يُقدِم بشّار على أيّ خطوة تساعد في إزالتها.
إذا استهان رجال الدولة بعامل الثقة، تضاءلت فرص تحقيق الاستقرار والازدهار، وظهرت الفجوات بين الحكم والشعب
هنالك حالات كثيرة، تكون فيها الرهانات على الخارج مغلقة، من أسبابها عدم ترتيب البيت الداخلي للتخلّص من الفوضى الداخلية التي تعاني منها الدولة التي تراهن على الخارج، وتصطدم بفشل تغيب عن بالها أسبابه، على الرغم من وضوح تلك الأسباب لمراقبين ومحلّلين وجمهور عريض لا يتوقّف عن الإشارة إليها على مدار الساعة. لكن، يبقى أمر معالجة مشكلات البلاد متعلّقاً بالسوريين أنفسهم، لأنهم الأكثر قدرة من غيرهم على تشخيص أزمات بلادهم وطرائق الحلّ. لذلك صُدم كثيرون بالأخبار التي ظهرت حول استيراد الغاز من أذربيجان لتغذية محطّات توليد الطاقة. كذلك الإعلان عن مباحثات لتوريد الأردن 40 ألف أسطوانة غاز منزلي يومياً، في الوقت التي أعلنت فيه الحكومة قبل أشهر اتفاقات مع جهات خارجية لاستثمار قطاع الطاقة، من أجل إدخال آبار النفط والغاز السورية في الخدمة.
هل سيتحسّن واقع الشعب السوري في حال استمرّ نهج الحكم في الرهان على الخارج؟... تفيد الوقائع بأن الوضع الأمني يزداد تفاقماً، وهو قابل في أيّ لحظة للتفجّر كما حدث أخيراً في السويداء. وإذا ما وضعنا النهج المتّبع بالتعامل مع الأقلّيات وفق منطق القوة، وتغليب فئة من الشعب على فئة أخرى، فإن كلّ يوم يَحلّ يحمل معه قصّةً من قصص الانتهاكات بحقّ مدنيين وحوادث خطف النساء في الساحل والموت تحت التعذيب. وليس خافياً على أحد أن أعين الساسة في الغرب مفتوحة على سورية طوال الوقت، يراقبون سلوك حكومتها، ومدى التزامها بتنفيذ الشروط التي وضعتها تلك الدول للمضي برفع العقوبات. فهل ستفعل ذلك الحكومة؟ إن كان من الصعب عليها محاربة الإرهاب من دون مساعدة الآخرين، فليس دمج الفصائل، وضبط تفلّت السلاح الذي ظهر في فزعة العشائر إلى السويداء، بالصعب، وهو شرط يحتاجه الداخل ليزداد عنده عامل الثقة. وإن استهان رجال الدول بعامل الثقة، تضاءلت فرص تحقيق الاستقرار والازدهار، وظهرت الفجوات بين الحكم والشعب.

أخبار ذات صلة.
