هل تأخّر الوقت على حلّ الدولتَين؟
عربي
منذ ساعة
مشاركة

صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في فبراير/ شباط 2024، أنّ الاعتراف بدولة فلسطينية "ليس من المحرّمات" بالنسبة إلى بلاده، لكنه في نهاية مايو/ أيار 2024، في وقتٍ كانت كلّ من إسبانيا وأيرلندا والنرويج تعترف رسمياً بفلسطين، أظهر الرئيس حذراً، وقال إنه "مستعدّ للاعتراف بدولة فلسطينية، ولكن في الوقت المناسب". ثمّ جاء المؤتمر الدولي في نيويورك من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وشكلّ حدثاً رئيساً، ترأسته فرنسا والسعودية، وعُقد في 28 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وتميّز بتصريحات داعمة لحلّ الدولتَين، والاعتراف بدولة فلسطين، أغضبت إسرائيل والولايات المتحدة. دان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بشدّة الموقف الفرنسي، معتبراً أنه "يكافئ الإرهاب"، وعدّه وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو "إهانةً لضحايا 7 أكتوبر"، إلّا أن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى عدّ المؤتمر التزاماً تجاه الشعب الفلسطيني، ودعا إلى إنهاء الظلم التاريخي الذي يتعرّض له، كما أشادت المملكة المتحدة بالمؤتمر، وأعربت عن نيَّتها الاعتراف بدولة فلسطينية إذا لم توقف إسرائيل حربها في غزّة. في ظلّ سجال حامٍ بين اليمين واليسار الفرنسي حول فلسطين، إذ نرى اليمين ينتقد "ازدواجية الرئيس"، واليسار يرحّب بقرار "ضروري أخلاقياً"، يحسم الرئيس ماكرون الأمر، ويصرّح أنّ فرنسا "ستعترف في سبتمبر/ أيلول المقبل في الجمعية العامّة للأمم المتحدة بدولة فلسطين"، إن كان في المؤتمر أخيراً أو في تصريحاته عبر حساباته في شبكات التواصل الاجتماعي، معتبراً أن بناء دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف بالكامل بإسرائيل "ستساهم في أمن الجميع في الشرق الأوسط". فهل جاء الوقت المناسب للاعتراف بالدولة الفلسطينية وتطبيق حلّ الدولتَين، كما قال الرئيس الفرنسي؟

تضاعفت معدّلات سوء التغذية في قطاع غزّة بين الأطفال دون سنّ الخامسة أربع مرّات في غضون شهرَين

تدعم باريس حلّ الدولتَين منذ قرار 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، ويتبنّى خطّة تقسيم فلسطين القاضية بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها بين ثلاثة كيانات: دولة عربية فوق 42.3% من مساحة الأراضي الفلسطينية، ودولة يهودية فوق 57.7% من فلسطين، والقدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، تحت وصاية دولية. لكنّ أحداثاً كبيرة وحروباً عديدة وقعت، منذ ذلك التاريخ، في المنطقة، فرضت (وما زالت) واقعاً جديداً على الأرض، لا مجال لتعدادها الآن، إنما يمكن القول إنّ العدوان الثلاثي على السويس عام 1956، الذي تحالفت فيه فرنسا مع إسرائيل والمملكة المتحدة، عزّز العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، وباشرت بعدها الدولتان في شراكةً استراتيجية، تتسم على نحوٍ خاصّ بتوريد الأسلحة. كان الموقف هو لصالح التحالف مع إسرائيل حتّى 1967، من دون الاهتمام بالفلسطينيين. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أمر مهم، أنه إذا كانت إسرائيل تمتلك ترسانةً عسكريةً مكّنتها من خوض الحرب ضدّ مصر والدول العربية في 1967، والتفوّق فيها، فذلك يعود بشكل خاص إلى إمدادات الأسلحة والطائرات، وخصوصاً من فرنسا، كما في تصريح للمؤرّخ جان فرنسوا فيجيك، في مقالة منشورة في أحد المواقع الفرنسية، بتاريخ 25/7/2015. أنهى شارل ديغول التعاون العسكري مع إسرائيل، وفرض حظراً على الأسلحة، ودان الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
ما يعيدنا إلى تاريخ الحكومات الفرنسية المتعاقبة ومواقفها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وطرائق حلّه، هو عودة الدور الفرنسي إلى تصدّر عناوين الصحف واهتمام وسائل الإعلام، في وقت يتعرّض فيه الشعب الفلسطيني للإبادة بكلّ معنى الكلمة، منذ "7 أكتوبر" (2023)، لكن من الملائم الوقوف عند جملة قالها الرئيس فاليري جيسكار ديستان، في مؤتمر صحافي في 24 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1974، عند أول اتصال رسمي بين ياسر عرفات ووزير فرنسي، كلمات قالها قد تظلّ في الذاكرة: "جوهر المشكلة هو الاعتراف بأنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم في الشرق الأوسط إلّا إذا جرى التعامل مع المسألة الفلسطينية على نحوٍ عادل... من اللحظة التي يعترف فيها المجتمع الدولي بوجود شعب فلسطيني، يجب أن يكون لهذا الشعب وطن خاص به". كم هو مهم هذا الكلام، وكم كانت الأمور ستمشي باتجاه أكثر سلامة للشعب الفلسطيني والمنطقة، لو أن العالم بالفعل اعترف بوجود هذا الشعب، وبحقّه في الحياة الكريمة كبقية الشعوب! فهو ابن الأرض وسكّانها الأصليين، ولم يأتِ من خارج الحدود ليستولي عليها ويطرد من كان يعيش فيها، وها هو يتعرّض للإبادة بشتى الطرائق أمام أعين العالم وعجز المنظمات الدولية والحقوقية عن أن تفعل شيئاً. بل إنّ إسرائيل ماضية، كعادتها منذ تأسيسها، في الاستخفاف بالشرعية الدولية، ولقد زاد هذا الاستخفاف حتى وصل إلى مستوى الاستفشار، فهي لم تصادف من يمنعها أو يستطيع الوقوف في وجهها في كلّ سياساتها وعملياتها العسكرية إلى اليوم، هي في الواقع دولة مرتكبة للإبادة الجماعية لا تحترم القانون الدولي.

بحسب تقرير الأمم المتحدة فإن مليوناً من النساء والفتيات في غزّة يعانين الجوع والعنف والانتهاكات

هل جاء القرار متأخّراً جدّاً، على رأي صباح في اسكتش الموسم الأزرق: "تأخرتِ كتير تا عطيتِ يا مواسم الزيتون؟"، أم أنّ بعد اليأس الذي وصلت إليه شعوبنا في المنطقة، وانهيار كثير من دولها ومجتمعاتها، فإن كلّ قرار أو حدث يحمل بعض الإنصاف لقضية هذه الشعوب المظلومة، هو مكسب في زمن القحط؟... تقول رئيسة مجموعة فرنسا - فلسطين، السيناتور الاشتراكية جيزيل جوردا: "ننتظر لنرى ماذا سينتج من قمّة سبتمبر"، ثمّ تضيف: "آمل أنه في اللحظة التي سيجري فيها اعتماد هذا الاعتراف، سيكون ما زال هناك بعض الغزّيين في قطاع غزّة". المجازر الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، وبشتى الطرائق الوحشية، يومياً، منها ما تظهر نتائجه الفورية، ومنها ما يؤدّي بخبث مدروس ومتعمّد إلى نوع من التطهير بحقّ الفلسطينيين، فليس الموت المباشر بنيران الحرب وحده موتاً، بل هناك صور أخبث من الموت، إنها تجويع الأطفال، وتجويع الأمّهات. لا تستطيع الأم المرضع منح الحياة لرضيعها، بل مصيرها ومصيره الموت، وإن بعد حين، والطفل في كلّ مراحل الطفولة بحاجة إلى الغذاء والشبع، وإلّا يستحيل إلى شيخ بعمر الطفولة، هذا ما نشاهده باستمرار على الشاشات، أطفال شيوخ بسبب الجوع وانعدام الغذاء.
لقد زاد سوء التغذية بمعدّل غير مسبوق في قطاع غزّة، فتضاعفت معدّلات سوء التغذية بين الأطفال دون سنّ الخامسة أربع مرّات في غضون شهرَين، وصل حتى 16.5%. وهذا يدلّ على تدهور حرج في الحالة الغذائية وزيادة كبيرة في خطر الوفاة نتيجة المجاعة وسوء التغذية. في يوليو/تموز 2025، تعرّض أكثر من 320 ألف طفل (إجمالي عدد السكّان الذين تقلّ أعمارهم عن خمس سنوات) لخطر سوء التغذية الحادّ، وهو الشكل الأكثر فتكاً من نقص التغذية، بحسب تقرير للأمم المتحدة، كذلك إن خطر وفاة الرضع والأطفال الصغار بسبب سوء التغذية هو أعلى من أيّ وقت مضى، فكيف سيكون عليه الحال من اليوم حتى سبتمبر الموعود؟ كم من الغزّيين سيهلكون كلّ يوم، وكم عدد الذين سيعانون الموت البطيء؟ وهل سيكون إعلان الدولة الفلسطينية ضامناً للشعب الفلسطيني، ولحياة ومستقبل من بقي، ولم تحصده آلة التوحّش الإسرائيلي؟

كيف ستكون حال غزّة حتى سبتمبر الموعود؟ كم من الغزّيين سيهلكون، وكم عدد الذين سيعانون الموت البطيء؟

إنها "حقائق لا يمكن إنكارها"، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وقال أيضاً: "الفلسطينيون في غزّة يعانون من كارثة إنسانية على مستوى غير عادي. هذه ليست تحذيرات، بل هي واقع يتكشّف أمام أعيننا"، ودعا إلى إغراق الإقليم بالمساعدات الإنسانية، فتحرّك ضمير بعض الحكومات، وقرّرت إرسال المساعدات جوّاً وإسقاطها فوق القطاع، فتحصد من الأرواح ما تحصد بحسب قانون الاحتمالات والريح والضغط الجوي، قبل أن تنعش أجساداً أنهكها الجوع والعطش. "تواجه النساء والفتيات في غزّة خياراً مستحيلاً: الموت جوعاً في ملاجئهنّ، أو المغامرة بالخروج بحثاً عن الطعام والماء، مع خطر كبير أن يُقتلن. أطفالهنّ يموتون جوعاً أمام أعينهنّ. إنه أمر مروع وغير مقبول وغير معقول. إنه غير إنساني"، قالت المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، سيما بَاهُوس. ولتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية من الغذاء والتغذية في غزّة، فإن القطاع يحتاج إلى أكثر من 62 ألف طن من المساعدة الحيوية كلّ شهر، فماذا سيحصل للشعب الفلسطيني في غزّة إلى أن يصل شهر سبتمبر؟... بحسب تقرير الأمم المتحدة فإن مليوناً من النساء والفتيات في غزّة يعانين الجوع والعنف والانتهاكات. وهنا لا بدّ من التذكير بأن الأسبوع العالمي للرضاعة الطبيعية يبدأ في الأول من أغسطس/ آب، بينما يجفّ نسغ الفلسطينيات، من طفولتهنّ مروراً بمراحل الأمومة حتى شيخوختهنّ، هذا إن نجون من المقتلة الإسرائيلية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية