لا أدَّعي أنّني أعرف الكثير عن شخصيّة الفنان والموسيقي الراحل عن عالمنا أخيراً زياد الرحباني؛ إذ كنت قد تعرّفت إليه من خلال أعماله، عن طريق أصدقاء لي، في تسعينيات القرن. كانوا يتبادلون النكات، عن طريق مقاطع من مسرحياته "نزل السرور"، أو "شي فاشل"، أو "بالنسبة لبكرا شو"، فيما كان آخرون يفضّلون أغانيه، وكنت منهم بحكم الضرورة، خصوصاً عندما أكون في سيارة صديق. وعادةً أصدقائي لا يستشيرونني فيما يودّون سماعه، لأنّني غير متابع للحركة الغنائية العربية. كانوا يكتفون بالنظر إلى بعضهم في السيارة وأنا إلى جانبهم: شو زياد أو شي ثاني؟ لينتهي الأمر من دون نقاش طويل: نعم زياد.
إذن، هكذا كانت المرّة الأولى التي أستمع فيها إلى زياد الرحباني من دون استشارة. آنذاك، أعجبتني أغنية "شو هالأيام إلّي وصلنالا قال إنو غني عم يعطي فقير"، بلحنها ومعانيها، وسخريتها، إضافة إلى غيرها من الأغاني التي كانت فريدة في مفرداتها وألحانها.
لاحقاً قادني الفضول إلى سماع مسرحياته، عبر أشرطة الكاسيت في الراديو. حينها لم يكن لديّ جهاز فيديو، ومسرحياته لا تعرض على التلفاز اللبناني، وهي غير مسجّلة بجودة جيّدة، فكان الحل الوحيد الاستماع إليها عبر شريط الكاسيت. بعد السؤال والبحث، وجدت مسرحياته معروضة لدى أحد الباعة في سوق البربير في بيروت على عربة. دفعت ثمن شريط مسرحية "شي فاشل" من غير محاججة في السعر، ولم أتوقّع أنّي سأضحك إلى حدّ البكاء لمدّة ساعتين وأكثر، وأنا أستمع إلى تلك المسرحية. تركت لمخيّلتي رسم حركة وأداء الممثلين. وحتى الآن، أعود إليها بين الفينة والأخرى، لتثير في نفسي تلك التساؤلات، لم يتغيّر الحال كثيراً عمّا حكاه زياد في مسرحيته عن لبنان.
"شي فاشل" مسرحية عُرضت عام 1983، تحاكي زمن اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وهي مسرحية داخل مسرحية، إذ يحاول الممثلون في "شي فاشل" تأدية مسرحية أخرى هي قصة أهالي قرية "جبال المجد".
يُظهر لنا زياد الرحباني في هذا العمل، مآسي الحرب الأهلية، عبر الفشل المتكرّر، في التمرين على تأدية تلك المسرحية والافتتاح على بعد أيّام قليلة. يصطدم العمل دائماً بعقبات كثيرة، تعود كلّها إلى ما تخلّفه الحرب الأهلية من عقبات، ابتداءاً بانقطاع الكهرباء المفاجىء، عدم وصول الممثلين إلى التدريب بسبب الاشتباكات وانقطاع الطرق، التدريب أثناء الاشتباكات والقصف، الفشل في تحضير الديكور، الهواجس بين الطوائف اللبنانية المسلمة والمسيحية مما يثير الخلافات بين الممثلين، الميزانية الكبيرة التي صُرِفت ما أثار غضب المنتج... وكلّها بطريقة فكاهية، لكنها حاكت الوضع المرير لتلك الحرب.
انحاز زياد الرحباني للمقاومة اللبنانية، ولم ينتقص هذا الخيار من شعبيته
يحاكي زياد في عمله هذا قصّة أهالي قرية "جبال المجد" الذين صوّرهم العمل أنهم يعيشون في هناء وصفاء قبل أن يعكّر صفو عيشهم مجيء "الغريب" الذي يسرق الجرة المقدّسة من قريتهم، لتبدأ التساؤلات والاتهامات: من سرق "الجرة"؟
في هذه المسرحية، يعطي زياد للصحافي الدور في إيضاح تضارب الاتجاهات السياسية حسب المصالح في لبنان، بحيث يجري الصحافي مقابلة مع مخرج المسرحية وهو بطلها أيضاً، ويلعب دوره زياد الرحباني، ومع غيره من ممثلي العمل. وهنا يبرز الاختلاف في تفسير الفرقاء لهذا الغريب، بين "الفلسطيني" الذي يتهمه جزء من اللبنانيين بالتسبّب بالحرب الأهلية، وآخرون يفسرونه بـ"المحتل الإسرائيلي".
هي مسرحية لم تنتهِ فصولها إلى الآن، فما زال لبنان يعاني من تحديات لم تختلف كثيراً عن مسبّبات الحرب الأهلية، إلى الفساد والخلافات... وليس آخراً الخلاف الحالي حول سلاح المقاومة، بين من يرى أن خيار إسناد ودعم فلسطين ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان هو خيار كارثي، لكنه لا يرى مشكلة في التحالف مع الغرب والنظام الرسمي العربي، وبين من يرى أنّ مسؤولية تحرير الجنوب ودعم القضية الفلسطينية هي أولوية وواجب.
انحاز الرحباني في سنواته الأخيرة، للمقاومة اللبنانية، ولم ينتقص هذا الخيار من شعبيته، فقد بقي جيل الشباب اللبناني وفياً له، ويسأل عن غيابه.
لقد كنت معجباً بصراحة زياد الرحباني في طرحه للقضايا الخلافية اللبنانية بطريقة صريحة، أو عبر الإيحاء. كنّا، كشباب فلسطيني، وإن كانت همومنا مختلفة نوعاً ما عن اهتمامات الشباب اللبناني، نشعر أنّه يعبِّر عنا، بعفويته وصراحته، وهو المعروف بدعمه للقضية الفلسطينية. فقد ترك منزل آل الرحباني، وما فيه من عزّ، بسبب موقفه الرافض لمحاصرة مخيّم تل الزعتر للاجئيين الفلسطينيين، وارتكاب أبشع المجازر فيه عام 1976. والمفارقة، أنّ زياد ذكر في مقابلة تلفزيونية، أنّه شهد في منزل عائلته التخطيط لمجزرة تل الزعتر.
كنّا ننظر إليه كشخصية عابرة للطوائف والمذاهب بمواقفه اليسارية والشيوعية، بحيث يصبح الاستثناء في التعامل مع "الغريب" أو "الفلسطيني"، في بلد يرتفع فيه منسوب العنصرية.
لم يُمنح الرحباني بعد رحيله المفاجىء، مزية إعلان الحداد الرسمي وتنكيس الأعلام في البلاد، إلّا أن شوارع الحمرا في بيروت التي اختارها سكناً، خرجت عن بكرة أبيها، لوداعه.
غاب الرحباني عن المسرح لسنوات طويلة، وكان آخر عمل قدّمه في منتصف التسعينيات "لولا فسحة الأمل"، إلّا أنّ أعماله المسرحية بقيت تراثاً كلاسيكياً عابراً للأجيال، وربما كانت رسالته الأخيرة هي أن نتمسّك بالأمل مهما كان الوضع صعباً.
وداعاً زياد الرحباني.