
قلّما نجد كُتّاباً استطاعوا تحويل سيرة المغتربين والمهاجرين إلى ملاحم إنسانية حقيقية، كما فعل الكاتبان الهولنديان حفيظ بوعزة (1970–2021) وعبد القادر بنعلي (1975)، اللذان بقيا يُساءلان جذورهما المغربية في أغلب أعمالهما الروائية المكتوبة مباشرةً بـ الهولندية، وهو ما لا يزال بنعلي حريصاً عليه، حتى بعد رحيل بوعزة. وروايته الأحدث "مهمة المورو" (2025) أكبر دليل على ذلك.
تبدأ الرواية الثانية عشرة لكاتبها بلمسة عبد القادر بنعلي السريالية، وقدرته على تحويل الواقعي إلى أسطوري. بطل الرواية، عمر لورينزو، كاتب هولندي من أصول مغربية إيطالية، وبهذا المعنى، فهو ليس مجرد كاتب عادي، بل ابن لتناقضات عدة: هولندي المولد، إيطالي الجذور، ومغربي الذاكرة.
بفضل هذه التركيبة المعقدة، يُرشَّح لورينزو لمهمة مستحيلة من قبل شركة هندسية إماراتية: توثيق روح مدينة البندقية في الشمال الإيطالي، عبر كتابة وتدوين قصص زوّارها، قبل أن تختفي غرقًا تحت المياه بسبب الفيضانات، استعدادًا لنقل المدينة بكاملها إلى صحراء دبي الآمنة! وذلك لأن: "المدن تموت مثل البشر"، كما يقول الراوي، قبل أن يكمل: "لكن بعض المدن ترفض الموت بهدوء".
رواية الواقع من خلال سير المهمّشين في شوارع مائية
هنا يبدأ بنعلي رحلته الأثيرة بين الواقع والمتخيل، بين ما نراه وما تخاف أوروبا الاعتراف به؛ لذلك، فإن سوء التفاهم لا يزال سيّد الموقف. يقول البطل محاولاً تبرير مهمته لمن يلقاهم فيعاملونه بحذر: "لست جاسوساً ولا منقذاً، أنا مجرد كاتب يعرف أن الحكايات هي آخر ما يبقى عندما تغرق المدن".
اللحظة الفارقة في الرواية تأتي مع لقاء لورينزو بالمورو، اللاجئ المتشرد في حانات البندقية، راوي القصص بالفطرة، و"يحمل أسرار المدينة في عينيه". يقول المورو للكاتب القادم في مهمة صعبة: "أنت تبحث عن قصص لإنقاذ المدينة، وأنا أبحث عن قصة لإنقاذ روحي".
من خلال عيني المورو، المغربي العليم بالحياة المعتمة للاجئين والمشردين في المدينة التي تحولت إلى "ديزني لاند للسياح الأثرياء"، ينقلنا الكاتب عبر بطله إلى المدينة الموازية التي يعيش فيها المهمّشون، بالأحرى إلى طبقات التاريخ المنسي للبندقية، حين كانت يوماً جسراً بين الشرق والغرب. يصوّر بنعلي الشوارع الضيقة مثل شرايين مدينة تحتضر، والقنوات المائية دموعاً لا تجف: "كانت المياه ترتفع ببطء، مثل خوفٍ قديمٍ يعود عندما تظن أنك نسيته".
استناداً إلى قصص الرحالة واللاجئين الذين يلتقيهم البطل في أزقة البندقية، ينسج بنعلي سرده المتشعب لما تعنيه أوروبا اليوم، في مخيلة من يلجأون إليها، كما في مخيلة من يعيشون فيها. فنلتقي بـ"ابن البطيخ"، السوري الهارب من دمشق رفضاً للانضمام إلى الجيش، ليصبح مشرّداً في شوارع البندقية، وها هو يقع في حب امرأة من الدار البيضاء: "ذات أظفار اصطناعية وردية اللون، ومزودة على الدوام بمناديل النظافة الرطبة التي لا تنضب". أو جاد التونسي، الشارد الآن في الشوارع، يحلم بالبندقية حين كانت رمزاً للتاريخ المشترك لأوروبا وتركيا والبلدان العربية والمغاربية. فيلمه المفضل هو Gladiator، ويعرف عن العبودية الرومانية والفتوحات المغاربية الكثير. ولكن ماذا يريد جاد؟ "أن أكون حراً، أن أحبّ، أريد أن أشعر كأني أسبح في نهر".
سرد مشبع بالشعر والقلق الوجودي يلتقط لحظة أوروبية حرجة
وهكذا تتوالى قصص اللاجئين المؤثرة، من محمود الفلسطيني الذي لا يرسم سوى الطيور، والمعلّم السوري في مخيم اللاجئين غير الشرعي، إلى "الأخ المبحر إلى موسيقيّ الشارع الكرواتي"، والمغربي المشرد في المستشفى مع كلبته الوفية ياسمين، وحتى "اليوغوسلافي الأخير" الأديب ميلو أندريتش في مخيم اللاجئين الهولندي، قبل أن يصبح صديقاً مقرّباً لميكانيكي الدراجات. خلاصة عبد القادر بنعلي واضحة: يمكن لأي شخص أن يكون لاجئاً.
ما يميز "مهمة المورو" عن أعمال عبد القادر بنعلي السابقة هو النقلة النوعية من السرد الذاتي إلى الملحمة الجماعية. فقد تمركز صوت بنعلي في أغلب أعماله الروائية والقصصية السابقة حول الصوت الذاتي، الراوي عن نفسه، كما في رواياته: "المنتظر" (2002)، و"فيلدمان وأنا" (2006)، و"صوت أمي" (2009)، وجميعها روايات ركّز فيها على الفرد المغترب، الباحث عن هويته الفردية.
ورغم تجارب بنعلي العديدة في أشكال السرد على أنواعها، وطواعيتها له، من الرواية إلى القصة والمسرح والمقال، وحتى كتب الطبخ والشِّعر، إلى درجة أنه قدّم في 2016 واحداً من أرقّ كتبه السردية غير الروائية، وهو رسالة إلى ابنتي، الذي يضم تأملاته حول الأبوة والهوية، إلا أنه في روايته الجديدة يقدّم سرداً ملحميًا لأصوات متعددة. نسمع صوت المدرّس السوري الذي يحاول إنقاذ ما تبقى من كرامته في خيمة اللاجئين، ونصغي لأنفاس العامل المصري الذي يحلم بعودةٍ لن تحدث إلى بلاده، ونحاول فهم صمت الطفلة المغربية التي ترفض الكلام منذ أن رأت والدها يغرق في البحر.
في مشهدٍ يلخّص الرواية، يقف البطل على جسر ريالتو حاملاً خريطة البندقية الجديدة التي صمّمتها شركة دبي: "رأيت المدينة كجثةٍ تم تشريحها، كل حجرٍ مرقّم كبضاعة في مزاد". وإن كانت بعض المراجعات النقدية قد استهجنت اللغة المباشرة في بعض المقاطع، إذ يهاجم بنعلي بلا رحمة النخب الأوروبية التي تبيع تراثها: "المهندسون الهولنديون الذين يصممون جزر النخيل في دبي هم أنفسهم الذين يتركون مدنهم تغرق". وكذلك لا يبخل على النخب العربية بالنقد الصريح: "الشيخ الذي يريد شراء البندقية لا يختلف عن الدوق الذي باعها قبل قرون".
تترك "مهمة المورو" قارئها أمام العديد من الأسئلة الملحّة، وخاصة اليوم، في زمن استقطابٍ استثنائي تعيشه القارة العجوز: هل يمكن إنقاذ المدن دون إنقاذ سكانها؟ وهل الذاكرة كافية لخلق وطنٍ بديل عندما يختفي المكان الأصلي؟ كيف نحيا عندما تصبح الثوابت سائلة؟ كيف نحفظ ذاكرتنا الجمعية في عالمٍ يبيع الماضي بالمزاد؟ وماذا يعني أن تنقذ مدينةً بقتل روحها؟ ومن له الحق في كتابة التاريخ: المنتصرون أم الضحايا؟
هنا تأتي جملة على لسان البطل إجابةً مرّةً: "كتب التاريخ تصنعها السفن الغارقة، لا تلك التي تصل إلى الشاطئ".
ذات يوم، كتب الناقد البريطاني جوناثان جيبس في "ذا تايمز" واصفاً كتابة عبد القادر بنعلي الروائية قائلاً: "بنعلي لا يكتب عن الهوية، بل عن زمنٍ أصبحت فيه الهويات سجوناً نرفض العيش فيها".
* شاعر ومترجم مصري مقيم في بلجيكا
