
في الخامسة والثمانين، اختار الفنان اللبناني فوزي بعلبكي أن يعنون معرضه الجديد المتواصل حتى التاسع والعشرين من الشهر الجاري في ملتقى دلول للفنانين في بيروت، بـ"الهروب إلى الفرح". لا تحضر الإشارة إلى العمر إلا لما فيها من مفارقة؛ إذ يبدو المعرض الذي افتتح في الثالث من يوليو/ تموز الفائت، طازجاً وفتياً.
اللوحات في معظمها خطّية؛ تتكوّن الأشكال من خطوط عريضة تُشكّل تجريداً قد يُشير أحياناً من بعيد، إلى موضوع يقابله، أو يكتفي بتجريده. ومع ذلك، يضفي تبسيط الأشكال وخفتها على النسق طابعاً حميمياً، يكاد أن يحمل، في كل مرة، خبراً أو حكاية أو موضوعاً كامناً. تنطبع الأشكال على خلفية فاتحة، متفارقة بذلك مع غموض الخطوطية الداكنة. الشكل معبّر ببساطته، إلى حدّ أنه يكاد يتكلم أو يُحتمل أن يُعنون أو يُقرأ.
ثمة أشخاص: اثنان، أو مجموعة، أو حتى مفرد. هؤلاء، بخطوطهم الثقيلة وحدها، يحملون وضعية وموقفاً وربما حكاية. اثنان في وضعيات مختلفة: متعانقان، أو قل متعانقون، ما داموا أفراداً أو اثنين أو جماعة. يتعانقون أو يتشابكون في مشهد يصرّح بموضوع ما: ألفة، وجلسة، وربما حبّ. لا يصرّحون فقط، بل يتكلمون أحياناً؛ حتى إننا نكاد نسمعهم.
أصل ليس في صلب اللوحة ولا مجرّد تجانس، بل غاية بعيدة
ثمّة أشخاص، نعم، لكن ثمّة أيضاً حيوانات، وغالباً هررة. بضربة ريشة واحدة، يخلق فوزي هرّة. وهناك أيضاً أشياء نتعرّف إليها: دراجات، أحياناً بركّابها، وأحياناً من دونهم.
لا نجد أشخاصاً فحسب، بل إلى جانبهم أشكالٌ مجرّدة، تقترب أحياناً من الزخرفة، لكنها في الغالب هندسات متشابكة أو جانبية أو عناقيد من أشكال وخطوط ذات تنويعات تتبدّل بين لوحة وأخرى. أقول "لوحة" وأفكر في كلمة "رسم"، فهذه الأعمال تقف في النقطة الوسطى بين الرسوم واللوحات، ومن هنا تأتي فرادتها وتميّزها.
حتى الآن، ما زلنا نهيم في هذا العالم. هذه الخطوطيات، من دون الوقوف كثيراً عند التسمية، تمنح إحساساً بقربٍ ما، يُمكن أن يُعيدها، ولو من بعيد، إلى أصلٍ متقارب، لا نقول واحداً. هذا الأصل ليس في صلب اللوحة، ولا مجرّد تجانس، بل له غاية بعيدة؛ مستقبله أكثر من بدايته.
تلمع فوراً تسمية "الحروفيّة"، ولكن من دون معناها المتواتر. هذه أعمال تضمر الحروفيّة، أو تتطلّع إليها؛ ففيها روحها وكنهها، أكثر مما فيها شكلها. نعم، هناك حروفيّة، لكن ليست تمريناً عليها، ولا استعادة لها.لن نجد هنا حروفاً واضحة أو نماذج من الخط العربي. قد يخطر الكوفي على البال، لكنه يظل في حدود التخايل. الحروفيّة هنا تكمن في الهندسة، في الشكل النهائي، في التقاطع والتداخل والتشبيك.
إنها لا تشبه الحروفيّات العربية الراهنة، الرتيبة أحياناً، أو المنسوخة، بل تسلك مساراً مختلفاً؛ ليست آيات أو أمثالاً، ولا عملاً على حرفٍ ظاهر. ليست الحروفيّة تمريناً على الخط العربي، بل الخطّ بالمطلق، والكتابة رسماً، والرسم كتابة. لا قاموس، ولا لغة بعينها، بل دروسٌ خلفية من الخط العربي وأشكاله، من دون أن تُترجِمها أو تمثّلها. إنها تستعير الهندسة، وربما الأفق، لكنها ليست للسرد ولا للتمثيل. إنها لغة بحد ذاتها، كتابة مطلقة.
لم يكن بول كلي يعرف العربية أو السومرية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يُفتتن بالخط، ويستعيره ليبتكر كتابة بلا لغة، كتابة هي الرسم فقط، الشكل المجرد الممكن خلقه، لتكون اللوحة بلغتها، بفنّها، وبشكلها. هذا ما فعله فوزي بعلبكي. لم يقل شيئاً مفهوماً، لكنه ترك الأشكال تتكلّم. الفنّ يغدو لغة قائمة بذاتها، ومعرض فوزي بعلبكي هو أيضاً لغته، والتي تواصل أسلوبها من لوحة إلى أخرى حتى تغدو نصّاً واحداً، يتكلّم بفنّه ويكتب لغته البصرية.
* شاعر وروائي من لبنان
