
في كل عام، ومع ذكرى "ثورة يوليو"، تفيض الصحف الرسمية والخطابات العامة بعبارات الإشادة والتمجيد، وتُقام احتفاليات لأيام عدّة تبدو في ظاهرها احتفاء بإرث حركة الضباط الأحرار المصرية التي تسلّمت الحكم عام 1952، لكنها أشبه بالطقوس المكرورة في لحظةٍ يبدو فيها حراك المؤسسات الثقافية بعيداً عن الأهداف التي أُنشئت من أجلها قبل نحو سبعة عقود.
ما الذي تبقى فعلاً من ثورة يوليو؟ لا تفترض الإجابة استدعاء الماضي، بل محاولة لقياس المسافة بين ما كان ممكناً ذات يوم، وما آل إليه الواقع الثقافي اليوم، ففي جوهر المشروع الذي انطلق مع تأسيس الجمهورية، حظيت الثقافة بمكانة مستقلة بعد أن كانت أنشطتها موزعة في العهد الملكي بين وزارات خدمية كالتعليم والأشغال كأنها ملحق هامشي، وإن شكّل مشروع يوليو في أحد جوانبه وسيلة للضبط الاجتماعي.
أُوكلت مهمة الوزارة الوليدة إلى ثروت عكاشة الذي لم يأتِ بصفته موظفاً إدارياً، بل كان مثقفاً حمل رؤية واسعة وسعى إلى إنشاء بنية استراتيجية طويلة المدى، فأسس قصور الثقافة في مدن مصر وقراها، وأكاديمية الفنون، وكذلك الهيئة العامة للكتاب، ومعرض القاهرة الدولي للكتاب، ودعَم السينما والمسرح والموسيقى من خلال إنشاء عدد من الهيئات المتخصصة، كما شارك في إنقاذ آثار النوبة بالتعاون مع اليونسكو.
تتآكل المؤسسات التي أنشئت باسم الثقافة للجميع
ومع صعود نهج الخصخصة منذ نهاية السبعينيات، ضعفت مساحة الدعم الحقيقي للفنون غير التجارية والمشتبكة مع الواقع وأزماته، وهُمّش الفنانون والمبدعون الذين يرفضون العمل وفقاً للقوالب الرسمية أو السوقية، ومعظم المشاريع الرسمية قُيّدت برقابة صارمة، تجعل من الصعب، أن يُعرض عمل مسرحي أو سينمائي أو فني يوجه نقداً صريحاً للسلطة أو يناقش تدهور المجال العام، وأُقصيت موضوعات جوهرية عن نتاجات من الأدب والفن المدعومة من مؤسسات وزارة الثقافة المصرية.
وفي السنوات الأخيرة، مُنعت دور نشر مستقلة في دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب منها دار تنمية ودار نشر مرايا والكتب خان وتنوير وديوان العرب، وتمّت كذلك مصادرة عناوين عديدة لناشرين مصريين وعرب بعضها كان مسموحاً تداوله خلال السنوات الماضية، في خطوة تكشف عن ضيق مجال حرية التعبير وتزايد السيطرة الأمنية، بحسب ما وثقّته تقارير مؤسسات ثقافية وحقوقية تتشابه مع تقارير كثيرة تشير إلى المنع والرقابة في مجالات ثقافية وفنية أخرى، بالإضافة إلى تدهور البنية التحتية وضعف الكفاءة الإدارية، ونقص التمويل الحكومي.
وهكذا تتآكل المؤسسات التي أنشئت ذات يوم باسم الثقافة للجميع؛ وهو الشعار الذي رفعته ثورة يوليو، بعد أن أُفرغ العمل الثقافي من مضمونه التحرري الذي ساد لوقت طويل، ليتحول إلى جهاز إداري يعيد إنتاج الخطاب السائد، ويُقصي ما عداه. والمفارقة أن ثروت عكاشة، الذي كان ضابطاً ومثقفاً حمل مشروعاً ثقافياً متكاملاً شابته بالتأكيد خروقات عديدة، بينما تدار هذه المؤسسات من قبل مثقفين وإداريين تقنيين لكن الفجوة بينها وبين والواقع الثقافي تتسع، في وقت تنهض فيه مبادرات مستقلة ومشاريع أهلية لا يعترف بها رسمياً فاعلاً أصيلاً يمتلك شرعيته في نظر السلطة.
