
قضينا سنتَين طويلتَين من الدماء والأشلاء والجوع والعطش، ونحن نسمع هذه الجملة التي تذكّر بالمثل العربي، خدعة الصبي عن اللبن: "حان الوقت لوقف الحرب في غزّة"، و"أن جرائم إسرائيل ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية"، كأن ثمّة جرائم مع الإنسانية (!). ونسمع أيضاً هذه الجملة "الراقية": "حرق الوقت"، و"شراء الوقت"، وما الوقت إلا الأَعمار.
كنّا نسمع: بايدن في طريقه إلى الشرق الأوسط، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن في رحلته الثامنة إلى المنطقة، الوزير الحزين الوجه، الذي قال إنه يهودي قبل أن يكون أميركياً. ومضى أسبوع، ثمّ أسبوعان، ثمّ شهر، ثمّ قيل: "مائة يوم"، ثمّ قيل: "أعطوا نتنياهو فرصةً"، وتبيّن أنه يريد حرباً إلى الأبد، والعرب ساكتون. شعارهم الجديد، وهم الذين قيل فيهم إنهم ظاهرة صوتية: إذا كان الكلام من فضّة، فالسكوت من ذهب.
وليس أمرهم بأغرب من بيان الأزهر الشريف، الذي سحب بيانه لإنقاذ غزّة، وجّه فيه شيخ الأزهر نداءً عالمياً للتحرّك الفوري لإنقاذ غزّة من المجاعة القاتلة، فلم يصمد بيانه سوى دقائق في الحلبة، وأكّد البيان المُختفي في ظروف غير غامضة "بالحكمة القاضية" "أنّ الضمير الإنساني بات على المحكّ، في ظلِّ استمرار قتل الفلسطينيين في غزّة، محذّراً من أنَّ كلّ من يدعم إسرائيل بالسلاح أو يساندها بالقرارات يُعَدّ شريكاً مباشراً في الإبادة".
قال الأزهر، حول أسباب سحب بيانه بشأن غزّة قبل صياح الديك ومواء الهرّة وضغيب الأرنب: "حرصاً على عدم التأثير على مفاوضات الهدنة الإنسانية، ودرءاً (كُتبتْ الهمزة في البيان على نبرة) لأيّ ذريعة تُستغلّ لتعطيل جهود وقف نزيف الدم"، مؤكّداً دعمه الكامل لأهل غزّة، وداعياً الله أن يحميهم ويصبّرهم: "وإنا لله وإنا إليه راجعون"، فتذكّرنا قول عنترة العبسي: "فَاغتالَني سَقَمي الذي في باطِني/ أَخفَيتُهُ فَأَذاعَهُ الإِخفاءُ".
تقول حزّورة أنَّ ملكاً ظريفاً يحبُّ اللطائف، عنَّ له أمر، فذهب إلى محكوم بالإعدام، وأخبره أنَّ في محبسه باباً سريّاً، إن اهتدى إليه نجا، ولا حكم عليه. فأمضى المحكوم ليلته يدغدغ بطون الحجر، لكنّها لم تضحك له. وفي النهار، جاء الجلّاد ليأخذه إلى حتفه، فسأله عن الباب السري، كأمنية أخيرة، فقيل له: إن الملك ترك له الباب مفتوحاً، وما كان عليه إلا أن يدفعه حتى يصير حرّاً. وأمس، اهتدى شاب مصري اسمه أنس حبيب إلى "الباب السرّي" في سفارة مصر في هولندا، وكان مفتوحاً، فأغلقه بـقفل درّاجة. جاء السفير غاضباً، يرغي ويزبد ويرقص من غير طبل ولا ألحان. أمّا الشاب لم يقل سوى: "مقفول من عندكم".
لم يكن الشاب ينوي تقديم طبق اليوم، فنثر بعض الطحين على الأرض (وهو يستغفر الله على هدر النعمة) وكسر بيضتَين عند باب السفارة، فأصبح قدوةً لأهل الأرض الغاضبين، وصاحب سنّة، له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. واتبع سنّته آخرون، فأغلقوا نحو 15 سفارة مصرية في هولندا وبلجيكا وفنلندا والدنمارك والنرويج وأيرلندا والتشيك وكندا ولبنان والسويد وتونس وإنكلترا وليبيا. ففزعت أميركا وإسرائيل خوفاً على شاويش المعبر، فأدخلوا بعض الطحين بالطائرات. يجب أن يكون بالطائرات، لأنها أسرع في إغاثة المُجوَّعين الهالكين، والغوث من السماء غير الأرض المحتلة، وأجدر أن يكون قصفاً للمحاصرين، وسبباً في الشحناء بينهم.
وأرسل مصريون آخرون طعاماً في زجاجات، فوصلت عبر البحر إلى الجياع. رسائل للأكل (!). ليست هذه حلولاً، لكنّها علقت الجرس في رقبة المرياع، وأنذرت الحكومات العربية والعالمية بثورات تحت الرماد. وقيل إنَّ سبب قبول إسرائيل بالحدّ الأدنى من المساعدات هو احتلال شابَّين قسم شرطة المعصرة، وهو الحادث الذي تلا حادثة "العجّة". إن كان هذا أو ذاك، فإنَّ شاباً مغموراً (صار مشهوراً) قدر على إجبار سابي قلوب العذارى بوسامته على الخروج لخطبة "عصماء" يبيّن فيها عذره ورحمته، ويرجو فيها ترامب على الهواء مباشرة، بعد مدائح مواهبه ومقدراته، أن ينهي هذه الحرب.
