
لم يكن زياد الرحباني الذي رحل أول أمس السبت، مجرد مؤلف موسيقي أو كاتب مسرحي، بل كان صوتاً عبّر عن قلق اللبنانيين، واختصر مأزقهم الوجودي والسياسي بالكلمات والأغنيات. وفي هذا السياق، تواصل "العربي الجديد" مع نقّاد وفنّانين مسرحيين لبنانيين عايشوا تجربة زياد، للحديث عن إرثه ومشروعه المسرحي، وما تبقّى منه في الفنّ والواقع.
فنّان العطايا الخمس
الأكاديمي والفنان اللبناني نبيل أبو مراد يؤكّد في حديثه مع "العربي الجديد" أنّ مسرح زياد الرحباني يمثّل فاصلة حاسمة بين التقليد والتجديد، وضع الإصبع على الجرح، متناولاً قضايا لم تكن مطروحة قبله بهذه المباشرة، مثل الصراع الطبقي، والتزييف الثقافي، وحقوق العمال المهدورة.
ويشير أبو مراد إلى أن الرحباني، في مسرحيته "نزل السرور"، طرح سيناريو لثورة أُجهضَت لأسباب عبثية، في نقد مبكّر ومؤلم لواقع سياسي هش، وهو بذلك فنان استشرافي، التقط مبكراً الاتجاه الذي تسير إليه البلاد، حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية. ويتابع: "زياد يجمع في شخصه ما أُسمّيه 'العطايا الخمس'، فهو المؤلف والمخرج والممثل والملحن والموزّع. وهذا ما يجعل أثره عميقاً، ليس فقط لدى من واكب عروضه مباشرة، بل حتى في ذاكرة الجيل الجديد، الذي لم يشاهد مسرحه على الخشبة، لكنه يحفظ عباراته ويرددها وكأنها جزء من لغته اليومية".
ويستطرد أبو مراد: "في كتابي 'المسرح اللبناني في القرن العشرين' اعتبرت أن مسرحيته الأخيرة 'بخصوص الكرامة والشعب العنيد' (1993)، تشكّل أقصى ما يمكن قوله في مشروعه المسرحي، ولهذا كان من الصعب أن يضيف بعدها شيئاً جديداً. كما أن رحيل شريكه المسرحي، جوزيف صقر عام 1997، إضافة إلى انشغاله لاحقاً بتقديم ألحان لوالدته فيروز، ساهم في ابتعاده عن الخشبة".
ريادة لا تحتاج إلى تقديس
كذلك تواصل "العربي الجديد" مع الناقد والباحث في مجال المسرح الحسام محيي الدين الذي أوضح أنّ "الحركة المسرحية في لبنان عاشت بين عامي 1960 و1975 مرحلةً ذهبية، كان من روّادها منير أبو دبس وأنطوان ملتقى والأخوان رحباني، وشوشو (حسن علاء الدين)، وغيرهم من المبدعين الذين شكلوا نواةً، أو الرعيل الأول، لهذا المسرح باتجاهاته الثلاثة: الجديّ الذهني، والاجتماعي الغنائي، والكوميدي الهزلي، وهي الاتجاهات التي تجاوز عنها الراحل زياد الرحباني في مرحلة لاحقة، والذي يمكن اعتباره من الرعيل الثاني. وهو أول من لجأ إلى المسرح للحديث عن الحرب الأهلية اللبنانية، والتي كانت إشكالية استحوذت على معظم مسرحه من النص إلى العرض. وبهذا كان رائداً في فتح النوافذ على مسرح عصري، يعرّي زيف المكونات السياسية، بعيداً عن الأساليب التقليدية".
ويُضيف صاحب كتاب "المسرح اللبناني: أزمة المرجع النقدي من النص إلى العرض": "يُحسب لزياد أنه لم يقتبس نصّاً، ولا فكرة عن الريبرتوار الغربي، وهذا كله في إطار حداثي متمدن لاقى تجاوباً من جمهور متعدد الثقافات، وخاصة في مسرحيات مثل: 'نزل السرور' و'فيلم أميركي طويل'، و'بالنسبة لبكرا شو؟' التي شكلت محاكاة يسارية، حيث نهضت على مستويين، هما: تسييس القضايا الشعبية، والثاني هو الحس الكوميدي في شخصه وحضوره الذي شكل وسيلة ضامنة لإيصال رسالته الاجتماعية، وهو بذلك أسس لخصوصية فرجوية ما يزال صداها حاضراً بين الجمهورين اللبناني والعربي، وهذا الكلام ليس مجاملة على الإطلاق. فمهما كانت علاقتنا به، بعيدة أم قريبة، فهي لا تشترط منّا أن نحبّه أو نقدسه بشخصه، لأن نتاجاته تغنينا عن كل ذلك".
من شارع الحمرا كان يمدّنا بالأمل
بدورها تصف الفنانة اللبنانية رندة أسمر حزنها على رحيل زياد الرحباني، تقول لـ"العربي الجديد": "لم أستوعب بعد أن البلد، والحياة فيه، يمكن أن تستمر من دون زياد". وتؤكد أسمر أن زياد من الفنانين النادرين الذين أدركوا الجوهر الحقيقي للفن؛ فهو استخرج الوجع من أعماق الواقع وقدّمه بطريقة فنية، تُحوّل الألم إلى لحظة فرح، والمرارة إلى شكل من أشكال القوة. وتضيف: "زياد الرحباني جعلنا نحتمل الحرب الطويلة، وقصص الحبّ المؤلمة، والحياة في بلد منهار، عبر سخريته استطعنا أن نتخطى مآسينا".
وتتذكر أسمر كيف كانت تتابع أعماله وسط أقسى الظروف خلال الحرب الأهلية: "كنّا ننتظر برنامجه الإذاعي 'العقل زينة' في ذروة القصف، ونمشي إلى شارع الحمرا في بيروت تحت الخطر حتى نشاهد مسرحياته، لأننا كنّا نعرف أننا سنعود بجرعة أمل كبيرة". وعن تجربتها الشخصية، تختم حديثها إلى "العربي الجديد": "كنت محظوظة، لأني اكتشفت شخصه عن قرب، روحه المجبولة بالصدق والتواضع. شاهدته يقود الفرق الموسيقية والكورال، ويعزف على البيانو بكل حب. شكراً على كل الفرح الذي منحتنا إياه".
نقد الواقع بلا مواربة
يرى الفنان اللبناني فايق حميصي، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن زياد الرحباني موسيقي أولاً قبل أن يكون مسرحياً، وقد دخل إلى عالم المسرح من بوابة الموسيقى، وهي القناعة التي ظلّ يحملها طوال مسيرته. يقول حميصي: "لو أردنا توصيف تجربته بدقّة، يمكن القول إن أمثال زياد يمرون في العالم من زاوية خاصة، تجمع بين المادي والفكري والروحي، في توليفة لا تشبه أحداً. لم يستشرف الرحباني المستقبل بقدر ما حلّل الواقع بمنتهى الوضوح، ودون أي مواربة أو مجاملة".
وعن مكانة مسرحه، يشير حميصي إلى أنه رغم وجود حركة مسرحية واقعية اليوم في لبنان، إلا أن فرادة مقاربة زياد وعمق معالجته يظلان استثنائيين، موضحاً: "مسرحية 'بالنسبة لبكرا شو؟' (1978) مثلاً، تقدّم تعرية كاملة للواقع من دون أي حواجز. من خلال قصة رجل يُشغّل زوجته في البار حيث يعمل، يُظهر زياد إلى أي حد قد يدفع الواقع الاقتصادي بالناس للتخلي عن المسلّمات الأخلاقية، وهي أفكار كان من الصعب جدّاً تناولها في الإطار الاجتماعي والفني السائد آنذاك". ويشبّه حميصي حضور زياد الرحباني بـ"الظاهرة"، ويختم: "هو امتداد لنَفَس مسرحي وموسيقي ربما لا نبالغ لو قلنا عنه إنه مثل سوفوكليس، وشكسبير، أو سيد درويش".
