
إنجاز أفلامٍ عن غزة، في حرب الإبادة الإسرائيلية التي تتعرّض لها منذ "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، يعني أنّ صُوراً وحكاياتٍ تُنقل منها إلى خارج القطاع، وهذا مُلحّ لأنّ السلطة الإسرائيلية، السياسية ـ العسكرية، تمنع الصحافة والإعلام الأجنبيين من دخوله. وهذا مُلحّ ليس لذاك السبب فقط، فالسينما (أو بعضها على الأقلّ)، رغم عجزها عن تبديل واقعٍ وإثارتها تساؤلات عنه، معنيّة بتوثيق حالة وقصة وذاكرة وراهن، لمواجهة أكاذيب وتزوير وترويجٍ لروايات رسمية، تُريد إسرائيل بثّها في العالم، المتململ حالياً من إجرامها، في بعض السياسة والإعلام الغربيَّين، وبين أناسٍ كثيرين، وهذا كافٍ مبدئياً.
إنجاز أفلامٍ عن غزّة، لحظة تجويع ناسها وتدمير ما تبقّى من أمكنةٍ أساسيّة للعيش، يعني أنّ الحصار الإسرائيلي، بكلّ إجرامه، غير مُتمكّن من إسكات قولٍ أو حجب صورة، مع أنّ الجيش "الأكثر أخلاقية في العالم" يتعمّد قصف منزل المُصوّرة الصحافية الفلسطينية فاطمة حسّونة، في 16 إبريل/نيسان 2025، لقتلها، بعد أن أُعلنَ رسمياً اختيارُ "ضعي روحَكِ على كفِّكِ وامشي"، للإيرانية زْبيدة فارسي، لبرنامج ACID، في الدورة 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ".
القتل المتعمّد، الحاصل قبل شهرٍ واحد فقط على بلوغ حسّونة 25 عاماً، متأتٍّ من وحشية إسرائيلية تجهد في منع صورة وحكاية من الانتشار في كلّ الأمكنة الممكنة، وحسّونة تظهر في الفيلم (110 دقائق) شابّةً مبتسمةً ترغب في مرحٍ لكنّه مفقود، وحياة لكنّها معطوبة، وعيش هادئ، لكنّ أهوال اليوميّ غير مسبوقة.
تحمل فارسي حوارها الطويل مع حسّونة (عبر وسائل تواصل قليلة) إلى مهرجانات سينمائية، لترويا معاً فصلاً من سيرة غزة راهناً، ومن سيرة حسّونة نفسها أيضاً. هذا غير موجودٍ في "غزة التي تطلّ على البحر" (2024، 82 دقيقة)، للفلسطيني محمود نبيل أحمد، المعروض أولاً في "آفاق السينما العربية"، في الدورة 45 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي": إنّه نتاج ورشة سينمائية مع "محبّي صناعة الأفلام" (كما يُذكَر قبيل ختامه)، والنتاج محاولة أولى لنقل جزءٍ من واقع مشاركين ومشاركات فيها، يعيشون حرب الإبادة قبل وقتٍ على التصوير، لكنّهم "بدلاً من توثيق الدمار والموت"، يُصرّون على "توثيق الحياة".
هذا جانبٌ آخر من سيرة غزة. فالقطاع، الذي يُعتبر من المناطق الأكثر كثافة سكّانية في العالم، له حياة، وإنْ يُفرض عليها أذى يومياً وتحدّيات تدفع إلى خوض معارك من أجل حقّ العيش. حرب الإبادة الإسرائيلية تجهد في تبديل هذا كلّه، و"غزة التي تطلّ على البحر" يقول إنّ حياة فلسطينية قابلة لذاك العيش، وإنّ أفراداً ظاهرين فيه يعكسون بعض هذا القول، قبل أنْ تُدمِّر إسرائيل منازل مشاركين ومشاركات في الورشة تلك، وتقتل عائلاتهم وجيرانهم، وتفرض نزوحاً على من يبقى حيّاً.
"هذا الفيلم يحكي عن غزة. لا تخَفْ. ركّز مع الشاشة وتخيّل نفسك هناك"، تقول الراوية بلكنة فلسطينية مُحبَّبة (شهد العواوده، المشاركة مع بازيل رابولا في تأليف الموسيقى الأصلية) في البداية، فيُظَنّ أنّ اللاحق مليء بحرب وجثث وخراب وقسوة ومواجع، فإذا بهذا اللاحق يعكس تفاصيل اليوميّ، بكلّ ما فيها من ضحكٍ وسخرية ومرارة وصدامات فردية بسبب عمل أو خطأ، علماً أنّ الغالبية الساحقة من الشخصيات المختارة رجالٌ: عجوزان متزوّجان منذ سنين، يتصادم أحدهما مع الآخر، وهذا جزء من الحياة الزوجية. تربية خيول، وما تُنتجه من نقاشات غير خالية من بعض توتر يخفّ بسبب وعي وتنبّه إلى صداقة وجيرة. تدريبٌ على العزف والغناء. عملٌ في صنع موبيليا. إقامة على شاطئ بحرٍ، مع تأمّل واسترخاء وقلق وأحلامٍ مؤجّلة، ربما لصعوبة تحقّقها. إلخ.
أمّا التونسية درّة زروق، فتختار الجانب المأسوي لعائلةٍ فلسطينية، تتمكّن من الخروج إلى القاهرة، حيث تلتقي أفراداً منها في كلامٍ عن وضع سابق على الخروج، وعن علاقة بمنزل وغرفة نوم ومدرسة وشارع، وعن أحلامٍ محطّمة وتخلٍّ عن بلدٍ (القطاع) يظنّ هؤلاء أنّه (التخلّي) مؤقّت (يُذكّر هذا بكلّ خروج فلسطيني، منذ عام 1948). الحسّ بالعيش اليومي في القطاع نفسه، لكنْ بعيداً عن الحرب (غزة تطلّ على البحر)، غير حاضرٍ في "وين صرنا؟" (2024، 78 دقيقة) لزروق، المائل إلى بكائيّات، يتخلّلها كلامٌ يتناقض بعضٌ منه مع بعضٍ آخر، إذْ تقول إحدى الشقيقات بقهر سابق على الحرب الأخيرة، بينما الشقيقة الأخرى تفخر بجمال القطاع وروعة العيش فيه.
مأزق "وين صرنا؟" (أين أصبحنا؟) كامنٌ في اشتغاله التلفزيوني العادي للغاية. شخصيات تظهر أمام كاميرا (مديرا التصوير نانسي عبد الفتاح وخالد جلال. التصوير في غزة لأحمد الدنف، مع كريم نادر وشريف عاهد ومحمد جمال) غير معنية بابتكار صُور سينمائية، لشدّة الانهماك في توثيق حكايات نادين وشقيقتيها دانا وجود، وأخرياتٍ قليلات. هذا يُلاحَظ في "ضعي روحَكِ على كفِّك وامشي" أيضاً (العربي الجديد، 11 يوليو/تموز 2025)، كما في "عيون غزة" (2024، 50 دقيقة)، المعروض في برنامج "آفاق مفتوحة ـ أفلام طويلة"، في الدورة 27 (6 ـ 16 مارس/آذار 2025) لـ"مهرجان سالونيك الدولي للأفلام الوثائقية" (العربي الجديد، 14 مارس/آذار 2025).
لعلّ ثقل اللحظة، وخراب الأمكنة، وقهر الأرواح، والتهجير العنيف المترافق وحرب إبادة واضحة، تفرض كلّها اهتماماً أكبر بتوثيق هذا، عبر لقاءات مختلفة مع أناسٍ عديدين، وتجوّل في أزقة ومنازل، كما بين أنقاضٍ. الصُّور الواقعية تلك تؤكّد جُرماً إسرائيلياً بحقّ مدنيين ومدنيات، وتبدو كأنّها الناطق الوحيد بوضعٍ غير إنساني وغير أخلاقي تفرضه إسرائيل بقوة الجريمة التي تمارسها. محمود أتاسي يرافق ثلاثة صحافيين فلسطينيين، والإيرانية زْبيدة فارسي مكتفيةٌ بشخصية واحدة (مُصوّرة صحافية فلسطينية أيضاً) تتحدّثان معاً عبر وسائل بصرية ـ سمعية غير سينمائية البتّة.
يختلف "غزة التي تطلّ على البحر" (أو "حكايات غزة"، بحسب العنوان الإنكليزي) عن الأفلام الأخرى بسرده حكايات أفرادٍ قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة. انضباط سياقه في السرد مرتكز على توليف (ياسين تبسي ومحمود نبيل أحمد ومها بعزيز) يوازن بين الشخصيات وما ترويه، وبين أمكنة (منزل، ساحة، إصطبل، شاطئ، طرقات، سيارات، إلخ) وأوقات (ليل، نهار)، مع ما تتطلّبه الأوقات من تنبّه إلى الإضاءة. غير أنّ المشكلة كامنةٌ في بعض المكتوب في نهايته، إذْ تخترق الحرب نفوساً وتفكيراً وإحساساً، يتحوّل (الاختراق) إلى جملٍ قليلة تعكس مرارة وبكائيّةً وألماً: "غزة التي نعرف قتلتها إنسانيتكم. الحرب بداخلنا ما زالت. ها هو الصاروخ نزل الآن، ألم تروه؟".
في مقابل الاستمرار الوحشي لحرب الإبادة في غزة، يستمر إنجاز أفلامٍ عن القطاع، ناساً ويوميات وعنفاً وقتلاً وانفعالاً. مع هذا، تبدو غالبية المُنجز أعجز من أنْ تلتقط الحاصل، جمالياً وفنياً وسردياً وبصرياً ودرامياً، علماً أنّ هناك أفلاماً روائية حديثة الإنتاج، بعضها معروضٌ، وبعضها الأجدّ سيُعرض قريباً، ولها قراءة نقدية لاحقاً.
