
في مطار براغ، التقيت المنتجة الأوكرانية بُولينا هيرمان، قادمة من جزيرة بالي (إندونيسيا)، لحضور العرض الدولي الأول لـ"ديفيا"، لمواطنها دْمِترو خْراشكو، المُشارك في مسابقة الكرة البلورية، في الدورة 59 (4 ـ 12 يوليو/تموز 2025) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي".
في الطريق، ظلّت هيرمان تتحدّث، بحماسة شديدة، عن السينما، وأحلامها وشغفها بإنتاج الأفلام. مَنْ يُنصت إليها، لا يتخيّل أنها قادمة من رحلة طيران تجاوزت عشر ساعات، بمحطّتي ترانزيت، بين كوالالمبور وأبوظبي وبراغ. كانت سعيدة. تتذكّر أجواء جلسات اليوغا الطويلة، التي أصبحت روتيناً يومياً يُعيد إليها سكينتها وسلامها النفسي، مؤكّدة أنها كانت سبباً داعماً لنشاطها الجسدي والذهني. تحدّثت عن الطبيعة في بالي، واستعادت قرارها بمغادرة لوس أنجليس، التي انتقلت إليها عام 2022، بعد بدء الغزو الروسي لبلدها.
عدم تحمّلها الوضع والأجواء، خاصة بعد حصولها على "غرين كارد"، جعلها تبحث عن بيئة أفضل. تحدّثت عن قراءاتها والمحاضرات التي تُقدّمها، واهتمامها بالوعي ـ اللاوعي (الظاهر والباطن)، وكيفية التعامل مع الأخير وترويضه. لذا، عندما أخبرتني أنها لم تعد تريد إنتاج أفلامٍ عن الحرب، تفهمّتها. إنّها تريد العمل على أفلام عن الإنسان نفسه، كيف يكتشف ذاته ويفهمها، ويحقّق سعادته. تُدرك صعوبة تمويل هذا النوع من الأفلام، لكنّها تُصرّ عليه، رغم أنّ منظّمين كثيرين لمهرجانات وداعمي أفلام يطلبون منها إنتاج أفلام حرب. تبتسم: "لا بُدّ من إقناع بعض النجوم للحديث في أفلامي، وعن علاقاتهم بمواضيعي البعيدة عن الحرب، لأنجح في تمويلها".
حديثها عن شريط الصوت وتكلفته الباهظة، في "ديفيا"، يُفسّر قرار فريق العمل بضرورة اختبار الصوت بالقاعة الرئيسية في فندق "تيرمال"، قبل العرض، للتأكّد من أنّه سيُعرض بالمقاييس نفسها التي صُنع بها. كلامها دفعني إلى حجز تذكرة لمُشاهدته على الشاشة الكبيرة مع الجمهور، الذي تجاوز عدده ألف متفرّج. أعجبني كثيراً بتشكيله البصري المتنوّع، المأخوذ بغالبيته بكاميرات علوية ("درون" وأرشيف الجيش)، تكشف جماليات الطبيعة، كأنّها كائن حي عملاق رغم الخراب والدمار وانفجار القنابل والصورايخ، ومحاولات إنقاذ طيور وحيوانات.
في جانب آخر، يؤدّي شريط الصوت دوراً رئيسياً، لا يُستغنى عنه.
(*) ماذا عن فكرة "ديفيا"، الذي جاء بعد أفلامٍ وثائقية، كـ"ثمن الصراع" (2021) لفولوديمير سيدْكو، وفيلم روائي طويل، "بيننا" (2021) لسولومِيْيا توماشتْشِك؟
"ديفيا" ثالث فيلمٍ لنا، دميترو خْريشكو وأنا (بعد "جبال في الجنة بينهما" عام 2021، و"الملك لير: كيف بحثنا عن الحب خلال الحرب" عام 2023 ـ المحرّرة). لذا، عندما شاركني الفكرة عام 2021، بدأنا نُطوّرها معاً. هو وأنا نحبّ الطبيعة، وأردنا إنتاج فيلم عنها. كان مهمّاً لنا الإضاءة على المشكلات العالمية.
(*) ما الذي أعجبكِ بالفكرة؟ ألأنّه عمل يصعب التنبؤ بصورته النهائية؟
كلّ المشاريع التي أعمل عليها تحمل أهمية اجتماعية. أجهد في إنتاج أفلامٍ أؤمن بها، وتُلفت انتباه الناس إلى المشكلات العالمية. في هذا المشروع، أدركتُ قيمته فوراً، وشعرتُ أنّ هذا الفيلم سيبقى في الذاكرة قروناً.
(*) عندما عرض خْراشكو الفكرة عليك، أكان هناك سيناريو مكتوب؟
كلا. في تلك المرحلة، كانت مجرّد فكرة أولية، بدأنا نُطوّرها معاً.
(*) اخترتِ موضوعاً صعباً ومحفوفاً بالمخاطر، لأنّ المهرجانات، كما أعتقد، تريد شيئاً مثيراً، يحتوي على الحركة والدراما والأكشن، ليكون في المسابقة الرئيسية. ألم تشعري بشكٍّ أو مخاوف من ردّ فعل الجمهور والمهرجانات؟
طوال عملية الإنتاج، كانت هناك مراحل مختلفة. طبعاً كانت هناك شكوك ومخاوف، لكنّي كنتُ واثقة دائماً بأنّنا سننجح. أصعب مرحلة تتمثّل برفض "مهرجان ساندانس" لنا. كان هذا حلمنا وطموحنا. كان مهمّاً جداً لي شخصياً، لأنّي كنت أعيش آنذاك في الولايات المتحدة الأميركية، وأرغب في إقامة العرض العالمي الأول فيها. في النهاية، كلّ شيء سار على ما يرام: أقيم العرض الأول في "كارلوفي فاري"، وأعتقد أنّه أفضل مكان، وأحد أفضل المهرجانات في العالم، يُمكننا إقامة العرض الأول فيه. سعيدة جداً بهذا.
فاجأني الجمهور وتفاعله. 1130 مُشاهداً في أول عرض. هذا مُذهل. كان الجمهور ودوداً ومُمتنّاً لجهودنا. يُمكن القول إنّه جمهور مميّز وعميق ومتفاعل ومهتمّ. هذا مصدر سعادة لنا.
(*) لا يعتمد "ديفيا" على الموضوع فقط. لا يوجد فيه حوار. شريط الصوت يرتكز على موسيقى سام سلايتر، والمؤثرات الصوتية لفاسيل يافْتوشِنكو ومايكْخِلو زَكوتسكاي، المنسوجة مع اللقطات البصرية. ألم تشعري بقلق أو مخاطرة؟
طبعاً شعرتُ بذلك. لكنْ، هذه الفكرة الرئيسية، التي أردت إيصالها إلى المُشاهد عبر المشاعر، وإتاحة الفرصة له ليشعر بالطبيعة بكلّ قلبه، وبناء حوار خاص معه ومع الطبيعة، خالٍ من الكلمات، ويعتمد لغة مغايرة وهامسة ترتكز أساساً على الصورة وحركة الطبيعة، وتؤازرها المؤثرات الصوتية والموسيقى.
أتمنى أنْ أكون ناجحة في ذلك.
(*) ماذا عن العقبات أثناء صناعته؟ كيف تغلّبتِ عليها؟
أكبر التحدّيات تتعلّق بإيجاد التمويل، إذْ يصعب الحصول عليه في أوكرانيا حالياً. كان لديّ فريق عمل دولي، وهذا غريب. صوّرنا المشروع ونحن مدينون. أنجزنا تفاصيل كثيرة من دون أنْ ندفع، وذلك بناء على الثقة بنا، وبما سنفعله في المستقبل، لأنّنا لم نتمكّن من استلام التمويل الرئيسي إلا بعد انتهاء الإنتاج.
(*) للموسيقى دورٌ مهم. كيف حدّد الفريق شكلها ونوعها؟ هل شاركت في النقاش حولها؟
منذ البداية، أدركت أن نصف الفيلم سيكون موسيقى. لذا، تواصلت مع ملحن هوليوودي، مشهور عالمياً، يُدعى سام سلايتر.
طبعاً شاركتُ في كل مرحلة من مراحل العمل على الموسيقى. جئتُ إلى برلين للقائه، واللقاء حصل في الاستديو الخاص به، لإتمام عمل يناسبنا جميعاً، غْلِب (صاحب شركة "غوغول فيلم"، المحرّرة) وأنا. إضافة إلى كوننا المنتجين الرئيسيين، أنتجنا الموسيقى أيضاً.
المخرج دْمِترو خْراشكو
إضافة إلى بولينا هيرمان، كان لقاء مع المخرج دْمِترو خْراشكو، الذي حضر العرض الأول لفيلمه هذا بزيّ عسكري أوكراني، ما لفت الأنظار إليه. اتّضح لاحقاً أنّه التحق بالجيش مجنّداً. حالياً، يخدم في الجيش بتنظيمه دورات تثقيفية للجنود. بات متحمّساً. يؤكّد أنّ هذا واجبٌ وطني. في اللقاء القصير معه، تحدّث عن شريط الصوت والموسيقى، وكيفية التعامل معهما: "كانت المهمة الرئيسية لسلايتر استخدام آلات موسيقية يصعب تمييزها، لجعل صوتها غريباً، بهدف إضفاء طابعٍ من عالمٍ آخر على "ديفيا"، واستحضار قوة طبيعية تُشبه البشر، لكنّها حقيقة شيءٌ أعظم بكثير، وأكثر غموضاً.
(*) هناك لحظاتٌ تُضفي للموسيقى شعوراً بالتصاعد الدرامي، وبعضها لحن رئيسي يتكرّر بين حين وآخر. كيف اخترْتَ الثيمة؟
يصعب الجزم والردّ على هذا السؤال. ربما يكون سلايتر أفضل من يُجيب عليه بشكل أدقّ. أردتُ منحه حريةً إبداعية. قراره؟ اختيار الألحان التي سيستخدمها، وكيفية صياغة السرد الموسيقي.
(*) أشعر أنّ بعض اللقطات من الأرشيف الخاص بالحرب، خاصة لقطات مُلتقطة من زاوية علوية. بعضها يتزامن مع إطلاق القنابل والصواريخ. على النقيض، هناك لحظات لا يحدث فيها شيء تقريباً، باستثناء قطة تجلس على النافذة، وطائر نقّار الخشب الذي ينقر على الشجرة. هناك أمور عدّة تجعلنا نفكّر أنّ تصوير هذا يحتاج إلى مزيد من الصبر والانتظار طويلاً، لتمنحك الطبيعة شيئاً ثميناً. هل عانيت أو انتظرت طويلاً للعثور على شيءٍ ذي قيمة؟ هل صُوِّرت هذه اللقطات خصيصاً للفيلم، أم أنّك استعنت بها من الأرشيف؟
في ظلّ التطوّر التكنولوجي، كلّ شيء يُصوَّر، ويوضع في أرشيف الجيش. التصوير 24 ساعة في اليوم. تصوير دقيق لكلّ ما يحدث. لذا، استعنت بلقطات أرشيفية. ساعدني الجيش. في البداية، هناك توجّس. لم يكن هناك ترخيص بالدخول إلى هذه المناطق وتصويرها، أو السماح بالحصول على ما صُوِّر. لكنْ، فور الوثوق بنا، باتوا متعاونين معنا كثيراً.
(*) أيُّ مشهد كان مُحفوفاً بالمخاطر؟ خاصة أنّ هناك قنابل وصواريخ عدّة، وألغاماً أرضية، صوّرتَ تفكيك بعضها.
تقريباً، كلّ مشهد صُوِّر في مناطق الجبهة، المُحرّرة مؤخّراً، يحمل مخاطر جسيمة. مناطق عدّة مرشوقة بالألغام بكثافة. كذلك، خطر القصف مستمرٌ. مع ذلك، كنّا محظوظين بسلامتنا أثناء التصوير. لكنْ، صراحة، في هذه المرحلة، هناك مخاطر وأخبار أخرى صادمة. الموت ينتشر في كلّ مكان تقريباً في أوكرانيا.
(*) هل أردتَ منذ البداية إنجاز الفيلم بأسلوب شاعري، رغم أنّه عن آثار الحرب وخرابها؟
الأسلوب الشاعري جديد بالنسبة إليّ. يسعدني استكشاف السينما كطريقة تفكير شاعري، لخلق نوع من القصيدة البصرية. لا أزال أتعلّم. أتمنى أن يُحقِّق "ديفيا" شيئاً له معنى.
(*) ماذا عن أحلامك؟
بالنسبة إلي وإلى الأوكرانيين جميعهم، الحلم الرئيسي أن تنتهي هذه الحرب، ويعمّ السلام. أتمنّى حقّاً أنْ تنتهي الحرب، وألا تغزو روسيا أوكرانيا مجدّداً، وألا تحاول فرض شروطها الجنونية علينا.
