
ارتبط اسم زياد الرحباني منذ صعوده بالغليان الثوري الذي ساد تلك المرحلة، وردّة الفعل الغاضبة على هزيمة يونيو/ حزيران 1967 وما عكسته من تأثيرات عميقة طاولت الأدب والمسرح والفنون، لكن ثورة زياد بدت جذرية وغاضبة أكثر، ربما لأن نقده كان مركباً ومكثفاً، إذ انتقد بقسوة إرث عائلته ضمن محاولات تجديده الموسيقى العربية، والأهم من ذلك تعريته للطائفية في لبنان، وأزمة السلطة في المنطقة بعمومها.
جذبت مناكفة الواقع والسخرية المحمّلة بالمفارقات والتساؤلات في أعمال المسرحي والموسيقي الذي رحل أول أمس، أوساط المثقفين في الدول المحيطة بلبنان، سوريين وفلسطينيين وأردنيين، في لحظة انقسمت الآراء حوله في وطنه، بالنظر إلى الاستقطاب الحاد بين معسكري اليمين واليسار اللذين انخرطا في حرب أهلية طويلة، تنبأ زياد بوقوعها في مسرحية "نَزل السرور" (1974). انتشرت كاسيتات أغانيه ومسرحياته في صفوف الناشطين والكتّاب والفنانين المسيّسين في سورية والأردن خلال الثمانينيات، رغم أنها كانت توزّع سرّاً، وإن اختلفت أسباب المنع في كلا البلدين، إلا أن التمرّد على المنظومة السائدة كان كافياً للحجب، وللانتشار في آن واحد.
لم ينجح زياد في استيعاب لحظةٍ معقدة تعيشها المنطقة
تشكّلت صورة زياد في بلدان الجوار اللبناني في أبعاد مختلفة، بدءاً من تأييده مقاومة الاحتلال الإسرائيلي على مدار العقود الماضية، ومناوأته لقمع الأنظمة العربية، وتعريته للظلم الاجتماعي والطبقي. ولا يمكن إغفال بعدٍ أخير ظلّ عابراً لأجيال شابة حتى اليوم، مع تزايد حضوره عربياً على منصات التواصل الاجتماعي، يتعلّق بعبثيته وجرأته وانزياحاته في التعبير بالنكتة المحملة بمضامين ناقدة وجارحة أو بالشتائم أحياناً على قضايا مسكوت عنها.
بالمسرح السياسي والاسكتشات الإذاعية والأغاني التي لحنها لكلّ من فيروز وجوزيف صقر وسامي حواط وسلمى مصفي، عبّر الراحل عن آرائه ووجهات نظره بالموسيقى والدين والسياسة والمجتمع وغيرها من المواضيع، لدرجة أن اخترع البعض مقولاتٍ ونسَبها إليه. على هذا النحو، تأسست أيقونةٌ تفيض عن المرجعيات التي استندت إليها، وبمعنى أدّق أصبح الفنان الماركسي المشتبك مع مجتمعه وأزماته، منظّراً في السياسة والفكر ورائياً يستشرف الغد، وحتى فيلسوفاً في نظر البعض.
في بدايات التسعينيات، تنامت عند زياد نزعة معارضة برنامج الإصلاحات (البيريسترويكا) التي قادت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، لينتج موقفاً معادياً للديمقراطيات الليبرالية. مقاربة العالم بوصفه منقسماً بين عدوين، انسحبت أيضاً على موقفه للانتفاضات العربية بعد 2011، التي تسببّت بحسب رأيه، بالانقسام وتفشّي الطائفية والتدخل الأجنبي، مؤيداً أنظمة على حساب شعوبها، وهي خلاصةٌ أقنعت معجبيه الذين ظلّوا شغوفين بأيقونتهم المعبّرة عن نضالات الفقراء والمهمشين ضدّ الرأسمالية، وإن لم ينجح زياد في تطوير أدوات تحليله، والتخلّص تماماً من الأدلجة، لاستيعاب لحظة معقدة تعيشها المنطقة.
