
حاولت مبادرتا "الإنقاذ الوطني السوري" و"المئوية السورية"، اللتان ظهرتا بالتزامن خلال الأيام الماضية في سورية، كسر الجمود السياسي في هذا البلد، عبر طرح رؤى مختلفة حول العديد من القضايا التي تشغل الشارع والتي تتعلق بأُسس العقد الاجتماعي، والحقوق والحرّيات، وشكل النظام السياسي، واللامركزية، والدستور الدائم، والعدالة الانتقالية. وصدرت المبادرتان عن شخصيات تعمل في الشأن العام السياسي، والإعلامي والفكري، كان لها دور خلال سنوات الثورة في سورية على نظام الأسد. وحملت المبادرة الأولى اسم "مبادرة الإنقاذ الوطني السوري"، وأعلن عنها يوم الأربعاء الماضي، والثانية "مبادرة المئوية السورية" التي أعلنت في اليوم نفسه.
مبادرتان سياسيتان في سورية
ودعت "الإنقاذ" إلى تشكيل هيئة وطنية رسمية للحوار الوطني السوري، تضم شخصيات مستقلة ومتنوعة فكرياً وسياسياً وقومياً، مع مراعاة تمثيل النساء والشباب. وتهدف هذه الهيئة، وفق المبادرة، إلى إدارة حوارات مجتمعية موسعة داخل البلاد وخارجها، خلال مدة تتراوح بين عام و18 شهراً، بالشراكة مع النقابات والجامعات ومنظمات المجتمع المدني. من جهتها، دعت "مبادرة المئوية السورية" إلى إعادة الزخم الشعبي للمسار الوطني في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وتوحيد السوريين حول مشروع ديمقراطي جامع يستند إلى مراجعة نقدية شاملة للمرحلة الانتقالية.
دعت "الإنقاذ" إلى تشكيل هيئة وطنية رسمية للحوار الوطني السوري
وهذه المرة الأولى الذي تشهد فيه سورية حراكاً سياسياً واسع النطاق منذ إسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وهُوجمت المبادرتان فور صدورهما للرأي العام السوري، بل إن القائمين عليها تعرضوا لحملات تخوين على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل مؤيدين للإدارة السورية.
وجاء إطلاق المبادرتين في خضم تحديات كبيرة تواجهها سورية اليوم، وصلت إلى حد تهديد وحدة البلاد جغرافياً واجتماعياً، لا سيما بعد الأحداث الدامية في السويداء التي اتخذت منها إسرائيل ذريعة إضافية للتدخل في الشأن السوري وصل إلى حد قصف مبنى وزارة الدفاع وهيئة الأركان في قلب دمشق.
وعزا الباحث السياسي عباس شريفة، في حديث مع "العربي الجديد"، عدم تفاعل الشارع السوري إيجاباً مع المبادرتين إلى "عدم الثقة"، مضيفاً أن "السياقات التي طُرحت من خلالها المبادرتان اقترنت بعملية عدوان على الدولة السورية، عدوان إسرائيلي وعدوان داخلي له ارتباطات خارجية، ومن ثم جاءت المبادرتان لإدانة الحكومة وتبرير العدوان، وبالتالي لم يتفاعل الوعي الجمعي السوري مع المبادرتين، وهذا شيء طبيعي جدا، وفق تعبيره.
ويؤكد قائمون على المبادرتين، لا سيما "المئوية السورية"، أن هدفهم "الإصلاح" وليس "إسقاط الدولة" كما يروّج البعض على وسائل التواصل، معتبرين حملة التشكيك والتخوين التي تطاولهم مردها "حالة الاستقطاب والخوف على الدولة"، لافتين إلى أنها "مبادرة وطنية موجّهة للقيادة السورية، لإطلاق مسار إصلاح وطني حقيقي من داخل الدولة وبروح تشاركية".
عباس شريفة: جاءت المبادرتان لإدانة الحكومة بعد أحداث السويداء وبالتالي لم يتفاعل الوعي الجمعي السوري معهما
وفي هذا الصدد، أوضح الباحث السياسي حازم نهار، وهو أحد القائمين على مبادرة "المئوية السورية"، في حديث مع "العربي الجديد"، أن المبادرة "تمّت بجهد جماعي وشارك عدد كبير من الأشخاص في صياغتها وعُدّلت مرات عديدة ثم عرضت للتوقيع". وتابع: "أطلقنا المبادرة في ذكرى عزيزة على السوريين، وهي ذكرى الثورة السورية المئوية ضد الفرنسيين في عام 1925. رأينا أن الاحتفاء بالذكرى يتم من خلال طرح مشروع وطني للخروج من المآزق الموجودة في ظلّ تصاعد نبرة الخطاب الطائفي". وبيّن أن أكثر من ألفي سوري وقعوا على المبادرة، مشيراً إلى أنها موجهة للسلطة في دمشق. ورأى أن "الهجوم على المبادرة جاء من خلفيات مختلفة بعضها طائفي وبعضها نتيجة الاستقطاب المعيب وغير الوطني، وربما البعض يخاف على السلطة والدولة رغم أن هذه المبادرات تقوّي الدولة". وأشار إلى أنه "كان مقرراً إطلاق المبادرة قبل أحداث السويداء وكنا نخطط لاحتفالية في دمشق والسويداء، ولكن الأحداث ألقت بظلالها على المبادرة"، مضيفاً أن "معظم ما جاء في المبادرة كان تحدث عنه الرئيس السوري أحمد الشرع مثل العدالة الانتقالية وتجريم الخطاب الطائفي".
خطوة رمزية وخطرة
في الاثناء، لا تبدو السياسة حاضرة بقوة في اهتمام الكثير من السوريين المنشغلين بالأوضاع الاقتصادية وتردي حال الخدمات في البلاد بالتزامن مع التهديدات الواضحة للسلم الأهلي والاستقرار الهش، لا سيما بعد الاستعصاء السياسي المزمن في ملفي السويداء والملف الكردي في شمال شرق البلاد. وجاء إطلاق المبادرتين في وقت تتعرض فيه الإدارة السورية إلى انتقادات داخلية وخارجية على خلفية الانتهاكات التي جرت بحق المدنيين في الساحل السوري في مارس/آذار الماضي، ولاحقاً في السويداء خلال شهر يوليو/تموز الحالي، والتي لا تزال تداعيات ما جرى فيها من تجاوزات واسعة حاضرة، بما في ذلك إجلاء سكّان المحافظة من العشائر العربية وسط مخاوف من أن يكون ذلك مقدمة لتهجير دائم، في خطوة ألقت بظلالها على المشهد السوري برمته. كما جاءت المبادرتان في ظل جمود سياسي يحكم المشهد السوري، حيث لم يظهر قانون بعد يُنظم هذا المشهد، ويفتح الباب أمام تشكيل أحزاب وهيئات سياسية.
حازم نهار: البعض يخاف على السلطة والدولة رغم أن هذه المبادرات تقوّي الدولة
وفي السياق، رأى سامر بكور، وهو بروفيسور مساعد في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة "إكستر" في بريطانيا، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "المبادرتين، المئوية والإنقاذ، تعكسان محاولات جدية لكسر الجمود السياسي في سورية"، لكنهما، برأيه، "تفتقران إلى رؤية عملية قابلة للتنفيذ في ظل موازين القوى الحالية". وتابع أن "ضعف الحاضنة الشعبية وفشل استقطاب جمهور واسع يعكسان انفصال هذه الطروحات عن هموم السوريين اليومية، وعدم وضوح آليات التغيير". وبرأيه، "هذه المبادرات قد تفتح نقاشاً سياسياً" يمكن وصفه وفق تعبيره "بالمهم"، لكنها "تظل رمزية وخطرة إذا استُخدمت واجهةً لصراعات نخبوية". وأضاف: "مستقبلها (المبادرات) مرتبط بقدرتها على بناء جسور مع الداخل السوري وتجنب لغة البيانات النخبوية التي تعيد إنتاج العزلة، وهذا ما لا نتمناه بصفتنا سوريين".
إلى ذلك، تُتهم الإدارة الجديدة في سورية بعدم الانفتاح السياسي على التيارات والمشارب الفكرية والسياسية السورية، التقليدية منها أو تلك التي ظهرت خلال سنوات الثورة السورية، بل إن بعض هذه التيارات تشتكي من الإقصاء والتهميش في ظلّ العهد الجديد الذي كان حلّ حزب البعث الذي احتكر السياسة في البلاد على مدى 60 عاما وأكثر. ولكن الباحث السياسي والمختص بقضايا الحوكمة زيدون الزعبي رأى، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الوقت "غير مناسب لإطلاق مبادرات"، مضيفاً أنه "لا توجد جاهزية لدى أي طرف للاستماع إلى مبادرات". واعتبر أن "طرح مبادرات في هذا الوقت ربما يسهم في تأجيج الأوضاع وليس حل المشكلات". وقال: "نحن في مرحلة استقطاب، لذا لا قيمة لأي مبادرة. علينا أن ننتظر الوقت المناسب".
في المقابل، رأى الباحث السياسي محمد السكري، في حديث مع "العربي الجديد"، أن المبادرات السياسية "تأتي لتأكيد عدم الجمود والفعالية والرغبة في تعزيز الفضاء السياسي والاجتماعي في سورية، عبر تنظيم مجموعة من الشخصيات أنفسهم بوصفهم مقدمات أولية لبناء المجتمع السياسي والوطني، وتعزيز ثقافة ديمقراطية تتسم بالتنوع والحرص على الدولة والرغبة في توسيع هامش الحريات العامة والسياسية، الذي يتطلب المبادرة المستمرة التي تقوم على التصويب وليس التصيّد". وبرأيه، فإن "كل مبادرة تقوم على تصويب العمل السياسي في الدولة مطلوبة في الوقت الراهن". ولفت إلى أنه "من الصعب بناء الدولة من دون وجود شعور لدى المواطن بأنه جزء أساسي من الفضاء العام وأن صوته مؤثر ومسموع، وهذا يمثّل أولى مقدمات المواطنة". كما شدّد على أنه "لا يمكن بناء سورية دولة مواطنة مسؤولة إلا عندما يتقدم الأفراد انطلاقاً من حرصهم على نجاح المرحلة، فالسياسة التي لا تتسع للتنبيه والملاحظة، ستضيق لاحقاً أمام الجمود".
في المقابل، رأى السكري أنه "من المهم قراءة اللحظة السياسية لأي مبادرة بحيث لا تذّكي صراعاً طائفياً أو انتقائياً أو تكون ديكوراً مغلفاً برغبة تصفية حسابات فئوية على حساب مشروع الدولة". ورأى أنه "يجب أن تنطلق من ضرورة تصويب المواطنة ولفت النظر والتنبيه لمخاطر عدم تفريق السلطة السياسية بين الدولة والنظام السياسي، فالمبادرة الإيجابية تصحح الأخطاء السياسية قبل تفاقمها". وأشار إلى أن المبادرات السياسية "تنبّه لمخاطر عدم المشاركة وعدم تنظيم المجتمع السياسي والمدني في ظل قوانين أحزاب ونقابات ومنظمات غير حكومية ونقل الاختلاف الفكري من الشارع إلى البرلمان وهذا يتطلب ضرورة الإسراع في تشكيل مجلس حقيقي للشعب". وشدّد على أن "أي مبادرة تسجيل موقف سياسي، أو تصويب سياسات، وهو حق وطني، بينما إيجاد قنوات لإيصال أي مبادرة إلى السلطة السياسية قد يساعد على تحقيق نتائج أوسع، بينما يبقى خيار النشر في الفضاء العام خياراً أخيراً في حال انعدام وجود تفاعل من قبل السلطة السياسية". كما رأى أنه "بصرف النظر عن المبادرات، الأهم الحرص على الحفاظ على المناخ السياسي الحر"، مضيفاً أن "الدولة لا تُبنى إلا بالتدافع الإيجابي والآراء المتباينة والأحزاب والحركات والتيارات والمبادرات السياسية المتباينة فكرياً، ما دامت تركز على بناء الدولة وليس إفشالها، فالدولة لا تبنى بالتطابق، بل بالتعدد الذي يتجه نحو غاية مشتركة"، وفق تعبيره.

أخبار ذات صلة.
