
يحمل ألبوم "أماتسو" (Amatssou) لفرقة "تيناروين" (Tinariwen) دعوة صامتة إلى الإصغاء، ليس بوصفه فعل سماع عابراً، بل كونه حالة تفتح الأذن على إيقاع آتٍ من مكان بعيد، لا تُقاس مسافته بالكيلومترات، بل بكثافة الشعور وعمق التجربة. "تيناروين"، الفرقة الطوارقية التي وُلدت من رحم المنفى والنضال، تحمل في أغانيها صدى التشريد والهوية، وتمزج بين بلوز الصحراء وغضبها الهادئ.
منذ تأسيسها في مخيمات الطوارق في ليبيا عام 1979، وحتى ألبومها هذا الصادر عام 2023، ظلّت "تيناروين" تعبّر عن شعب بلا دولة، وعن انتماء لا تحكمه الحدود، بل يُصاغ بالصوت والتكرار واللهجة الصحراوية التي لا تفهمها الآذان جميعها، لكنها تمسّ شيئاً ما في القلب.
يمثّل "أماتسو" تأملاً موسيقياً سياسياً في معنى الانتماء وسط التشظي، وفي قدرة الإيقاع على حمل ذاكرة لم يُكتب لها أن تُؤرّخ. المؤسس إبراهيم أغ الحبيب، موسيقي ومقاتل سابق تأثّر مبكّراً بالموسيقى الغربية وبأغاني الثورة الجزائرية، وبدأ كتابة أغانيه الأولى مستخدماً لغة التماشق (تماشيك) بمضامين سياسية ترتبط بهموم الطوارق، من التشريد والهوية والنفي. منذ ألبومهم الأول عام 2001 وحتى اليوم، تُعرف "تيناروين" عالمياً بوصفها ممثلاً لتيار بلوز الصحراء (Desert Blues)، إذ تمتزج تقاليد غناء الرحّل بالإيقاعات الغربية، خصوصاً القيثارات الكهربائية.
صدر "أماتسو" أو "ما وراء الخوف" ليشكّل امتداداً صوتياً وتأملياً لتجربة "تيناروين" الطويلة في التعبير عن واقع الطوارق وهمومهم الثقافية والسياسية. سجّلت الفرقة الألبوم في مواقع متفرقة، بين صحراء تازوزلي ناجر في الجنوب الجزائري، وبعض الجلسات في موريتانيا، بينما تولّى المنتج الكندي الشهير دانيال لانويس (Daniel Lanois) تنقيح الصوت والإنتاج النهائي في الولايات المتحدة، ليمنح الألبوم طابعاً هجيناً يجمع بين الصدى المحلي واللمسة العالمية. يشكّل "أماتسو" عتبة جديدة في مسار الفرقة، إذ لا يكتفي باستعادة نبرة المقاومة، بل يعيد تشكيلها عبر نسيج صوتي أكثر انفتاحاً على أدوات غير مألوفة في موسيقى الطوارق التقليدية.
يمضي "أماتسو" في الطريق نفسه الذي سلكته "تيناروين" منذ بدايتها، لكنه لا يكتفي بالتكرار، بل يُعيد النظر في صيغته. هناك حذر واضح من الوقوع في نمطية الصوت، وهناك رغبة في تفكيك الشكل من دون التفريط بروح الفرقة. هكذا، يستعين الألبوم بعدد من العازفين الأميركيين لتقديم قوام موسيقي جديد، من بينهم فاتس كابلن على آلة الكمان والبانجو تحت إشراف إنتاجي من دانيال لانويس، المنتج الكندي المعروف بتعاوناته مع بوب ديلان وبراين إينو.
لكن اللافت أن هذا التعاون لا يفضي إلى "غربنة" الصوت، بل العكس؛ فالمستمع يجد نفسه أمام لحظة تبدو فيها الآلات الغربية قد دخلت في بنية "تيناروين" بدلاً من أن تطغى عليها. الكمان لا يعلو على القيثارة الطوارقية، بل يُحاكيها، يتردد خلفها، ثم يندمج معها. آلة البانجو، القادمة من تقاليد البلوز الأميركي، تتحوّل إلى عنصر صحراوي بمجرد دخولها إيقاع التكرار الذي ميّز موسيقى الطوارق منذ بداياتها.
في الأغنية الافتتاحية Kek Alghalm (كيك الغلم)، يتجلّى هذا التماسك: غناء يتقدّم بخطٍ واحد، جملة قصيرة تتكرر، بينما تظل القيثارة تمشي ببطء، لا تندفع ولا تتراجع. كأنها تقول: لا حاجة إلى العجلة، نحن أبناء الصحراء، ونفهم أن الصمت قد يكون أكثر تعبيراً من الامتلاء.
سياسياً، يحتفظ الألبوم بما كان دائماً في صلب مشروع "تيناروين": تمثيل صوت شعب بلا دولة، وبناء ذاكرة فنية بديلة للتاريخ الرسمي. لكن هذه السياسة لا تأتي في صورة خطاب مباشر، بل تتسرّب من داخل اللغة الموسيقية نفسها. في أغنية مثل Tenere Den (تنيري دن، أي "الصحراء اليوم")، لا نسمع احتجاجاً صريحاً، بل استعارة كبرى عن الأرض والضياع والانتماء المعلّق. الأغنية هنا لا تشرح شيئاً، بل تخلق إحساساً بالتيه، يوازي التهجير الفعلي للطوارق، ويحوّل المعاناة إلى بنية صوتية لا يمكن فكّها من مضمونها.
الألبوم مكتوب باللغة التماشقية، وهي لغة لا يفهمها كثير من جمهور "تيناروين" العالمي. لكن المفارقة أن هذا الغموض لا يُقصي المستمع، بل يمنحه مدخلاً آخر إلى المعنى، يعتمد على النبرة، والتكرار، وتوزيع الصوت. الغناء هنا ليس وسيلة لنقل كلمات، بل هو بذاته رسالة. في أغنية Arajghiyine (أراجغيين)، مثلًا، لا نفهم المعنى الحرفي، لكننا نسمع صوتاً يتبادل القيادة مع أصوات أخرى، نسمع ما يشبه نداءات متبادلة، كأن الغناء ليس أداء فردياً، بل طقس جماعي، ووسيلة للتماسك في وجه التشظي.
ولا يقلّ دلالةً أن يُسجل الألبوم في جزئه الأكبر خارج أفريقيا، وتحديداً في ناشفيل الأميركية، المدينة المعروفة بموسيقى الكانتري. فهذا الموقع الجغرافي، الذي يفترض أنه بعيد عن الصحراء، يتحوّل إلى نقطة تقاطع، تشهد على قدرة موسيقى الطوارق على تخطّي الفواصل من دون أن تذوب. لا يوجد هنا تعارض بين "المحلّي" و"العالمي"، بل اندماج واعٍ، ينتج صوتاً لا ينتمي تماماً إلى أي من الجانبين، لكنه يحتفظ بجذوره، ويكسب أدوات جديدة.
هذا ما يجعل "أماتسو" مختلفاً عن تجارب المزج السطحي. هو ليس لقاء بين ثقافتين، بل تفكيك لمفهوم "الثقافة" ذاتها. لا أحد يُمثّل ذاته كاملة هنا، بل الجميع يدخل في منطقة رمادية، يُعاد فيها التفاوض على المعنى، وعلى الحدود، وعلى الصوت.
جاءت العناوين نفسها لتوحي بهذا المزاج المركب، "أماتسو" لا تعني "ما وراء الخوف" فقط، بل تشير إلى تلك المساحة الشعورية الدقيقة، إذ يتحوّل الخوف إلى إدراك، والضياع إلى صمود. وفي هذه النقطة بالذات تتقاطع السياسة مع الموسيقى: فالخوف ليس فقط حالة فردية، بل شرط وجودي لشعب، وبالتالي فالتغلب عليه هو فعل جماعي، تُمارسه "تيناروين" عبر الغناء، وليس عبر البيانات.
لا تُنسى في هذا السياق الجملة الإيقاعية المتكررة في أغنية "تيجيت"، إنها تحمل ما يمكن وصفه بالعناد الإيقاعي الذي يرفض الانكسار، وكأن "تيناروين" لا تقول نحن موجودون فقط، بل سنبقى على طريقتنا ولن نتغير.
وفي زمن يزداد فيه صوت المنصات، ويُختصر فيه الفن في عدد مشاهدات أو ترند، تأتي "تيناروين" لتقول إن هناك أصواتاً تُقاس بشيء آخر: بالزمن الطويل، وبالخطى الثقيلة، وبالصمت الذي لا يحتاج إلى شرح.
هكذا يُمكن فهم "أماتسو" ليس باعتباره ألبوماً فقط، بل بياناً جمالياً/ سياسياً في آن. إنه لا يبحث عن جمهور، بل يدعو من يصغي أن يشارك. لا يقدّم بضاعة، بل تجربة. لا يطلب تصفيقاً، بل عودة إلى نوع آخر من الإصغاء، أقل صخباً وأكثر وفاءً لما يُقال حين لا يُقال شيء.
على امتداد أكثر من عقدين، شكّلت ألبومات "تيناروين" محطات متدرجة في نحت هوية موسيقية فريدة تجمع بين بداهة الغناء الصحراوي وبنية موسيقى البلوز والروك في آن.
يمثّل ألبوم The Radio Tisdas Sessions (جلسات راديو تيسداس) الذي صدر عام 2001 انطلاقتهم الرسمية نحو الجمهور العالمي، فنقل إحساس العزلة الصحراوية بلغة موسيقية مباشرة. ثم جاء Aman Iman (الماء هو الحياة) عام 2007 ليُكرّس حضور الفرقة بأغان مشبعة بنبرة الحنين والمقاومة، متكئة على غيتارات تُشبه زوابع الرمل، وصوت جماعي يوحي بالمجتمع أكثر من الفرد.
أما ألبوم Tassili (تاسيلي، 2011)، الذي نال جائزة غرامي لأفضل ألبوم في فئة الموسيقى العالمية، فقد مثّل ذروة في مسيرتهم؛ سُجّل في الهواء الطلق بالصحراء الجزائرية، وجاء أكثر تأملاً وتجريداً، مستبدلاً التضخيم الكهربائي بجماليات الصوت الطبيعي.
وفي ألبوم Elwan (الوحوش، 2017)، بدت الموسيقى أقتم، محمّلة بانكسارات النزوح والحرب، لتجمع بين الطابع الملحمي للغناء التقليدي وتكثيف إنتاجي معاصر. هكذا، ظلّ كل ألبوم جديد لا يكرر ما قبله، بل يُعيد تشكيل عناصر اللغة الصحراوية في سياق صوتي ينفتح على العالم من دون أن يفقد جذره.
منذ مطلع الألفية، تحوّلت حفلات "تيناروين" إلى طقس موسيقي فريد في المهرجانات الغربية الكبرى، فبدا حضورها على المسارح أشبه بنقل الصحراء نفسها إلى قلب المدن. شاركت الفرقة في مهرجانات عالمية مثل كواتشيلا (Coachella) وغلاستنبوري (Glastonbury) ومونترو للجاز (Montreux Jazz Festival)، ولاقت عروضها تفاعلاً لافتاً من جمهور متنوع لا يتحدث لغتها ولا يعرف خلفيتها، لكنه ينصت بانجذاب إلى تردّدات غريبة ومألوفة في آن.
لم تكن هذه الحفلات مجرد عروض موسيقية، بل لقاءات عابرة للثقافات، يجتمع فيها جمهور الروك والبلوز والموسيقى العالمية حول طاقة أوليّة يصعب تصنيفها. وفي هذه المساحات، لم تحاول "تيناروين" أن "تُرضي" الذوق الغربي، بل جاءت بموسيقاها كما هي، رافعة لغة التماشق إلى المسارح، ومجسّدة فكرة أن الموسيقى الأصيلة لا تحتاج إلى وساطة كي تُفهم.
رغم المسيرة الطويلة والتقدير العالمي الذي نالته "تيناروين"، لا يزال حضورها في الوعي الموسيقي العربي محدوداً، ويقتصر غالباً على الدوائر المهتمة بالموسيقى العالمية أو التجريبية. وفي الوقت الذي تحظى فيه موسيقاهم باحتفاء واسع في أوروبا وأميركا، يظلّ الاهتمام العربي بها محصوراً في جمهور نخبوي أو متخصص. هذا التفاوت لا يعود إلى حاجز اللغة فقط أو اختلاف الخلفية الثقافية، بل أيضاً إلى غياب منصات العرض والترويج التي تحتفي بموسيقى الجذور وتُفسح لها مكاناً في المشهد العربي.
ومع ذلك، فإن العمق التعبيري الذي تحمله موسيقى "تيناروين"، وقدرتها على تجاوز السياق المحلي إلى تعبير كوني عن التشظي والانتماء، يضعها في موقع فريد يجعلها مؤهلة، إن أُتيح لها الحضور، لأن تشكّل إضافة حقيقية للمخيال الموسيقي العربي في بحثه عن صوت مختلف.

أخبار ذات صلة.


