"صلاة القلق" لمحمد سمير ندا.. ثورة تخرج من فانتازيا النص
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

"صلاة القلق" (مسكيلياني 2024)، رواية الكاتب المصري، محمد سمير ندا، الفائزة بجائزة بوكر للرواية، ولعلّها، بين الروايات التي فازت بها، من أكثرها استحقاقاً.

تبدأ الرواية بدرجة من التملُّك، نخال معها أننا بدأنا من صميمها؛ إذ يباشر فصلها الأول عملاً لا يلبث أن ينبسط أمامنا، فصلاً بعد فصل، من نقطته الأولى. منذ البداية، نحن في قلب مخاضٍ يتوالى حتى النهاية. وفي الفصل الأول، نعثر على البُنى نفسها، على تلك المزاوجة التي، من دون إغراب، وبقدر من الطبيعية، تشبه أن تكون تأريخاً، بقدر ما تكاد أن تكون فانتازيا.

هناك ذلك الانفجار السماوي، النيزك الذي سقط ركاماً وأحجاراً، وإلى جانبه نجد أنفسنا في "نجع المناسي" الذي لن نغادره، وكأنه نهاية العالم. في هذا النجع، ثمة الشيخ والتاجر، علمان على مجتمع يضم إليهما النحال، والدباغ، والنسّاج، وسواهم.

الشيخ أيوب، ابن الولي جعفر الذي عاد من الموت، وخليل الخوجة الذي هو، في آنٍ معاً، التاجر والوجيه والقيّم، بل والصحافي الذي يصدر جريدة بصفحة واحدة، في بلدٍ قلّ فيه القُرّاء وطغى فيه الأميّون.

هناك أيضاً تمثال الزعيم، الذي لا تخلو الرواية من إشارات إلى أنه جمال عبد الناصر، التمثال الذي انشطر وبقي يظهر في ساعات الليل. منذ البداية، نحن في حربٍ لا نهاية لها، وسنمر عبرها على هزيمة يونيو/حزيران. إنها حرب تستنزف الجنود لسنوات، لا يقدرون خلالها على العودة إلى بيوتهم، وكأنها أبدية.

بدايات تبدو تمهيداً لدراما تصطدم لاحقاً بخيبات أو واقع باهت

في هذا البلد، تمطر السماء أحجاراً، وتظهر على الجدران عبارات موجَّهة إلى سكان البيوت، لكنها لا تُفهَم إلا بوصفها فضائحهم. تلك الفضائح نجد ما يوازيها في وباءٍ يحصد الجميع، ويعرّي وجوههم ورؤوسهم من الشعر. لن ينجو منه سوى اثنين: ابن التاجر الذي هربت والدته من البيت وتركته لوالده، فعضّ على لسانه حتى نزف، ومن حينها أصبح أبكم، وصارت الكتابة وسيلته الوحيدة للتواصل. والثانية هي شواهي الغجرية. نجاتهما تبدو رمزية وتحرّراً من الواقع أكثر مما تنتمي إليه.

سنلتقي أيضاً بحفيدٍ لفلسطيني شارك إلى جانب عبد القادر الحسيني في معركة القسطل. وسنلتقي بالنحال الثائر على التاجر والشيخ، الذي لا يفوّت فرصة للرد عليهما، وخصوصاً على الأول. كلاهما يتنافسان على النفوذ والسلطة.

كل ما تظهر له إشارة في مطلع الرواية يتمدد لاحقاً، ليصل إلى نهايات غير مرصودة تنقلب على البداية وتكاد تنفيها. نفاجأ في أحد الفصول بما يشبه الثورة، أو بثورة لا تخرج من الواقع بقدر ما تخرج من فانتازيا النص. النهايات لا تشبه البدايات، فتبدو هذه الأخيرة تمهيداً لدرامات تصطدم لاحقاً بخيبات أو واقع باهت ورتيب.

"نجع المناسي"، موضع الرواية، يتغير اسمه إلى "نجع المجاذيب". ليس وحده من ينكسف، بل ستكون للشيخ والتاجر نهاية مماثلة. ستختفي الغجرية كأن لم تكن، وسينتهي ابن التاجر الأبكم إلى مصحٍّ نفسي. سيبقى التمثال المشطور، ليتضح في النهاية أنه لا يشبه عبد الناصر، كأنما عبد الناصر لا يشبه نفسه، أو كأن تاريخه لم يكن.

أما الشيخ الأب (الولي) والشيخ الابن، فلا يمانعان في أن يرتادا حانة الغجرية، كأنهما لم يعودا نفسَيهما. لن يتردّد محمد ندا في العودة، على نحو ساخر وجسور، إلى التاريخ المصري المعاصر. سيقف طويلاً أمام شخصية كعبد الناصر، فتبدأ الرواية باستعارة تاريخية، لكنها لا تلبث أن تفوّتها وتنقلب عليها.

ومع ذلك، يبقى "نجع المناسي" كنايةً واضحة عن مصر، والشيخ والتاجر يمثلان، في آنٍ معاً، السلطة والطبقة المهيمنة. الوباء، الذي يترك الناس صلعاً شبيهين بالسلاحف، لا اسم له، لأنه كناية عن واقعٍ كامل.

الرواية تزاوج بين الاستعارة الفانتازية والنقد السياسي الصريح، وتفعل ذلك بالقوة التي تشكل ديدنها، والجسارة التي تطبع أسلوبها ومضامينها. الفانتازيا في هذا العمل ليست للزينة، بل هي استعارة روائية خالصة، بل لعلها الرواية وقد جاءت من مكانٍ آخر.

محمد ندا لا يغامر بتفسير العائد من الموت، ولا الانفجار السماوي، ولا الوباء، لكنه يتحدث عن عبد الناصر وهزيمة حزيران بقدر من المباشرة. إنه يُخفي بقدر ما يُظهر، ولا يتردد في التصريح حين يحين وقته، لكنه يُجيد اللعب الروائي بإتقان. نحن هنا أمام عملٍ مجتهد، جسور، قادر على التجريب، بل يتعمده. نقرأ فيه تاريخاً داخل رواية، كما نقرأ رواية تُتقن لعبتها الفنية. وفي الوقت نفسه، نجد فيه ما يشبه المراجعة والنقد، كما نجد فيه مغامرةً وقالباً فنيّاً متماسكاً.

* شاعر وروائي من لبنان

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية