
خط ديورند الفاصل بين باكستان وأفغانستان، هو خط الحدود الذي فرضه الاحتلال البريطاني في المنطقة، وظل محط نزاع بين كابول وإسلام أباد منذ استقلال الأخيرة عن نيودلهي في عام 1947. حافظت الحكومات الأفغانية المتعاقبة على موقف واحد إزاء خط ديورند وهو عدم الاعتراف به بوصفه حدوداً رسمية، في حين تصر باكستان علناً على أنه خط دولي، لكن في الخفاء تسعى لإقناع أفغانستان بالاعتراف به. الأهم في ذلك هو أن الجزء الكبير من القبائل الموزعة على طرفي خط ديورند (تحديداً على الجانب الباكستاني) لا ترى فيه فاصلاً حقيقياً، بل لا تزال تحافظ على علاقات قوية فيما بينها، وولاؤها المتبادل أقوى من ولائها لأي حكومة كانت.
استقرار وحروب على جانبي الحدود
في زمن الحروب كانت القبائل على الجانب الباكستاني تميل إلى باكستان بسبب الاستقرار فيها في ظل الحرب في أفغانستان، لكن مع سيطرة طالبان على الحكم في كابول وعودة الاستقرار إلى أفغانستان، بدأ المزاج القبلي يتغير بشكل كامل. وبات للقبائل الآن جرأة الوقوف في وجه قرارات الحكومة الباكستانية والمؤسسة العسكرية، وبعضها يقول إن "مستقبلنا مع أفغانستان، وأنها هي الوطن الحقيقي"، وهذه القبائل لا تعتبر الحدود بين الدولتين سوى سياج يمكن تدميره في أي لحظة، وهو ما قامت به بالفعل في الكثير من المناطق. لم تعد آراء القبائل مجرد هتافات وآمال بل لها تداعيات على الأرض، إذ بالإضافة إلى ظهور أصوات انفصالية داعية للانضمام إلى أفغانستان، يواجه الجيش الباكستاني مقاومة من قبل القبائل عند قيامه أو نيته القيام بأي عملية مسلحة ضد حركة طالبان باكستان.
خلال الأيام الماضية عُقدت اجتماعات قبلية في عدد من المقاطعات، وكان قرارها واحدا، وهو عدم السماح للجيش بشن عملية مسلحة ضد طالبان باكستان. ومع أن هناك من يرى أن الجيش الباكستاني عليه أن يمضي قدماً في خططه من دون الأخذ برأي القبائل، بيد أن صنّاع القرار في المؤسسة العسكرية يدركون جيداً أن للقبائل امتدادا على الجانب الثاني من الحدود، ويساند بعضها البعض، مدعومة من حكومة طالبان. وليست القبائلية وحدها ما يربط أبناء القبائل على جانبي الحدود، بل أيضاً الأيديولوجيا الدينية، إذ إنه على الجانب الأفغاني يوجد حركة طالبان الأفغانية، وعلى الجانب الباكستاني طالبان الباكستانية، والرابط بين الحركتين ديني وقبلي. لذا يظهر إصرار الحكومة الباكستانية والمؤسسة العسكرية على إقناع طالبان الأفغانية على التعاون معها بدلاً من الانخراط في الصراع مع القبائل.
سميع الدين وزير: الجيش الباكستاني أحرق سوق والدي بالكامل
يقف سميع الدين وزير في وسط سوق مير علي في مقاطعة شمال وزيرستان التي تقطنها قبيلة وزير، الموزعة بين أفغانستان وباكستان، ويشير بيده إلى السوق قائلاً لـ"العربي الجديد" إن "فيه ذكريات كثيرة، أعرف كيف كان أبي يستقرض من الناس ليفتح محلاً صغيراً في هذا السوق، وأتذكر ذلك اليوم الذي فتح فيه أبي أبواب المحل، لنوزّع الحلويات احتفالاً. أنا ورثت السوق من أبي ولم أعمل فيه لأشهر حتى جاء الجيش الباكستاني وأحرقه. ولم يكتفِ الجيش بإحراق السوق بل دمر منازلنا، وأصبحنا مشردين في المخيمات، تاركين وراءنا كل ما نملك. عدنا مرة أخرى وبدأنا نبني من جديد، وسقطت الصواريخ أكثر من مرة على السوق، مدمّرة أجزاء منه ورغم ذلك صمدنا. الآن يطلب منا الجيش أن نخرج من جديد ليقوم بعملية مسلحة على غرار ما فعل في السابق".
غرباء في الأرض
ويضيف وزير: لم تعد لنا كرامة وأصبحنا غرباء في أرضنا، إذ حين أتحرك مع أولادي وأسرتي، يتم توقيفنا لساعات على يد عناصر الجيش عند الحواجز الأمنية، وهم عناصر لا يعرفون لغتنا وثقافتنا وأعرافنا، وهم من إقليم البنجاب. أصبح هذا الأمر روتينياً. نحن جالسون في منازلنا والطائرات بلا طيار تحلق فوق رؤوسنا على مدار الساعة. لا ننام في فناء المنازل وفي الحدائق، كما كنا نفعل في الماضي، خشية أن تقوم تلك الطائرات بتصويرنا مع أهالينا، علاوة على استمرار الغارات التي تقتل النساء والأطفال والرجال. أما على الجانب الثاني حين نعبر الحدود وندخل أفغانستان، فكل من في الحكومة والجيش والشرطة أشخاص من قبائلنا، يعرفون لغتنا وتقاليدنا وأعرافنا، لا أحد يسأل عن هويتنا، نتحرك من أقصى أفغانستان إلى أقصاها من دون أي خوف، لكننا لا نستطيع أن ندخل الكثير من المدن الباكستانية، ولا بد أن نأخذ الرخصة للدخول إليها. لو كان هذا التعامل مع أي إثنية أخرى ماذا كان ليحصل؟ هل نحن غرباء في هذه البلاد؟
أما الزعيم القبلي أختر محمد محسود (من قبلية محسود وموطنها الأصلي وزيرستان ولكن لها امتداد في ولايتي خوست وبكتيا الأفغانيتين)، والذي شارك مراراً في المفاوضات مع المسؤولين الأمنيين بخصوص قضايا تهم المنطقة، فيتحدث لـ"العربي الجديد" عن زاوية أخرى قائلاً: نعيش في أرضنا التي كان آباؤنا يعيشون عليها قبل استقلال باكستان وبعدها، وسنظل نعيش فيها، لكننا الآن لا نملك إرداتنا، الأمر الذي لم يحدث في تاريخ القبائل أبداً. ويضيف: "يحدث أن يقف جنود باكستانيون ومعهم دبابات ومدرعات ويأمرونا بإخلاء المنازل خلال ساعتين أو فترة زمنية أخرى لكن تكون قصيرة عادة. نحن الزعامة القبلية، التي كانت بمثابة حكومة تدير المنطقة قبل هذا، ونقف عاجزين في وجه هؤلاء. هم يقولون لنا إن طالبان (باكستان) داخل المنازل فنرد عليهم بأنها ليست هنا. هذه منازلنا ونعرف من في داخلها، لكنهم يصرون. بالتالي نخرج منها وعندما نعود، يكونون قد فتشوا منازلنا ودمّروا بعضها وعبثوا بمحتوياتها. أقول لكم بصدق أنا أخجل من نسائنا، كيف يدخل الجنود إلى منازلنا ويفتشون غرف نومنا ونحن أحياء؟ لم نعتد بوصفنا قبائل على هذا الأمر. إضافة إلى ذلك أقول لكم فتشوا كل وزيرستان الشمالية والجنوبية، إن كان هناك جامعة أو مركز تعليمي. أين المدارس؟ أين المستشفيات؟ الطرق دمرها الجيش، الأسواق دمرها الجيش، قبل الجيش كانت هذه المناطق بأفضل حال".
ويضيف محسود أنه "عندما نعبر الحدود إلى الجانب الأفغاني، رغم أن الحرب دامت عقوداً، إلا أن الطرق معبدة، المستشفيات موجودة، المدارس موجودة. نعم، النساء محرومات من التعليم مع الأسف، ولكن عندنا لا نساء ولا رجال يمكنهم أن يدرسوا، هناك الشرطة والجيش يتفاهمون معنا، اللاجئون الذين تركوا القبائل الباكستانية ويعيشون في مخيمات في ولاية خوست وبكتيا في جنوب أفغانستان، أحسن حالاً منا بألف مرة. الناس تساعدهم، الحكومة تساعدهم بالمواد الغذائية وغيرها من الاحتياجات، لا أحد يدخل المخيمات من دون التنسيق مع الزعامة القبلية، لأنهم يعرفون أنه إذا قتلت قبلياً يبقى أسهل عليه من أن تدخل إلى منزله من دون إذن. مع ذلك أنا لست مع الانفصال عن باكستان، ولكن أريد تغيير هذه الحالة، لتعيش القبائل كما يعيش سكان باقي المناطق الباكستانية، ولتعود منطقة القبائل إلى الحالة التي كانت هي فيها قبل دخول الجيش".
أختر محمد محسود: كيف يدخل الجنود إلى منازلنا ويفتشون غرف نومنا ونحن أحياء؟
خط ديورند وآراء الشباب
وعكس هذه المواقف، بات لجيل الشباب، خصوصاً المثقفين والمتعلمين الذين درسوا في المدن وعاشوا فيها، آراء مختلفة. كثيرون منهم لا يدعمون فكرة الانفصال عن باكستان، بل يلقون مسؤولية ما حدث في منطقة القبائل على عاتق طالبان والزعامة القبلية نفسها. في السياق، يقول نجي الله خان أفريدي (من قبائل أفريدي بمقاطعة خيبر القبلية)، وهو أستاذ جامعي درس الهندسة ونال الماجستير من جامعة بيشاور، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن باكستان هو بلدنا شاء من شاء، وأبى من أبى، إن مشكلة الحرب والإرهاب لا تقتصر على بلادنا وحدها بل المنطقة كلها أضحت في أتون هذه الحرب التعسفية. الذين يقولون إن الجيش دمّر منطقة القبائل، أقول لهم لماذا تدخل الجيش؟ الجواب لأن منطقة القبائل أصبحت بؤرة الإرهاب ومعقل المسلحين، كنا نرى عمليات الذبح والقتل والإجرام، لذا جاء الجيش للقضاء على هؤلاء. ويوضح أفريدي أن القبائل كانت تدافع عن تلك الجماعات وتستفيد من سيارات المسلحين ومكاتبهم وسلاحهم، وكانوا يؤونهم ويطعمونهم، والمسلحون يستهدفون الأمن في بلادنا، لذا جاء الجيش ليحاربهم، ثم أتى بعض زعماء القبائل ليقولوا لنا إن الجيش هو الذي دمر المنطقة. الجيش لم يكن السبب، بل التنظيمات المسلحة هي التي كانت وراء كل ما حدث، وهي الآن مرة أخرى تقوى في المنطقة، ولا يكون أمام الجيش والقوات المسلحة خيار سوى القضاء عليهم.
من جهته، يعتبر الإعلامي الباكستاني عبد الله مهمند (من قبيلة مهمند الموزعة بين أفغانستان وباكستان) أن قضية خط ديورند معقدة، ولم تعترف أي حكومة في تاريخ أفغانستان به. في المقابل تعتبر باكستان خط ديورند حدوداً رسمية، وكلا الموقفين متناقضان، ما يعني أن المشكلة باقية، "لكنني أقول من رؤية قبلية وبوصفي شابا مثقفا من أبناء القبائل وإعلامياً يراقب القضايا عن كثب، إن خط ديورند حقيقة، سواء اعترف به الناس أو لا، إن خط ديورند كان بين الاحتلال البريطاني لباكستان وبين أفغانستان، هذه المنطقة ورثتها باكستان بعد الاستقلال. الآن هي جزء من بلادنا، نحن نحبها، نريد أن تتحسن الأمور لأن القبائل لا تريد الانضمام إلى أفغانستان". ويؤكد مهمند أن قضية خط ديورند هي بطاقة في يد أفغانستان تستخدمها للضغط على باكستان، ولكن في حقيقة الأمر إن خط ديورند حدود فاصلة بين دولتين، لكل منها سيادتها، وهما أفغانستان وباكستان.
