بعد نحو 3 أسابيع من التصريحات الأميركية المتكررة بشأن قرب الوصول إلى هدنة جديدة في غزة، قلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الطاولة، بـتصريحات مغايرة تماماً، اتهم فيها حركة حماس بالتنصل من الوصول إلى اتفاق، وعرقلة المباحثات التي تجري في العاصمة القطرية الدوحة. وتحدث الرئيس الأميركي، أمس الجمعة، عن أنّ "حماس" لا تريد اتفاقاً، وتفضّل الموت، وأنه يجب القضاء عليها تماماً، وملاحقتها، وأن لإسرائيل الحق في التصرف معها بعدما أفسدت الوصول إلى هدنة جديدة.
ولم يختلف موقف المبعوث الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط سيتف ويتكوف عن سابقه كثيراً، إذ اتهم الحركة بالتلاعب في المفاوضات وعرقلتها، وأعلن عن سحب الوفد الأميركي المشارك في مفاوضات الدوحة. وبدا الموقف الأميركي منسقاً بشكل مسبق مع الموقف الإسرائيلي، لا سيما أنه جاء بعد وقت قصير من إعلان الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، إعادة وفد التفاوض من الدوحة "للتشاور"، من دون الإشارة لأي عراقيل. واللافت أن المواقف الأميركية والإسرائيلية حملت إشارة جديدة تحدثت عن البحث عن "بدائل أخرى" لاستعادة المحتجزين في غزة، وهو ما يحمل تهديداً مبطناً بإمكانية تنفيذ الاحتلال محاولات تخليص أسرى من غزة.
في المقابل، فإنّ منصات أمنية مقرّبة من كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وفصائل المقاومة في غزة، أعلنت عن رفع الجهوزية الأمنية وإبلاغ المجموعات التي تعمل على حراسة الأسرى الإسرائيليين باتباع بروتوكول "التخلص الفوري"، من دون إيضاح تفاصيله، حال إقدام الاحتلال على أي عملية تخليص في غزة. وردت حركة حماس على التصريحات الأميركية، عبر تصريحات عمّمها عضو المكتب السياسي للحركة عزت الرشق، اليوم السبت، قال فيها: "نستغرب التصريحات الصادرة عن الرئيس الأميركي ترامب، وقبلها تصريحات المبعوث الأميركي الخاص ويتكوف، التي تتعارض مع تقييم الوسطاء لموقف الحركة، ولا تنسجم مع مجريات المسار التفاوضي، الذي كان يشهد تقدّماً فعلياً، وكانت الأطراف الوسيطة، وخصوصاً قطر ومصر، تعبّر عن ارتياحها وتقديرها لموقفنا الجاد والبنّاء".
وشدد على أن التصريحات الأميركية تغضّ النظر عن المعرقل الحقيقي لكل الاتفاقات، والمتمثل في حكومة نتنياهو، التي تضع العراقيل، وتراوغ، وتتهرّب من الالتزامات، مؤكداً أن "حماس" تعاملت، منذ بداية المسار التفاوضي، بكل مسؤولية وطنية ومرونة عالية، وحرصت على التوصّل إلى اتفاق شامل يوقف العدوان، ويضع حداً لمعاناة أهلنا في قطاع غزة. وقال: "ردّنا الأخير قدمناه بعد مشاورات وطنية موسّعة مع الفصائل الفلسطينية، والوسطاء، والدول الصديقة، وتعاطينا بإيجابية ومرونة مع جميع الملاحظات المطروحة، في إطار وثيقة ويتكوف نفسها، مع تأكيدنا فقط على ضرورة وضوح البنود وتحصينها، خاصة ما يتعلّق بالشقّ الإنساني، وضمان تدفق المساعدات بشكل كثيف وتوزيعها من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها المعتمدة، من دون تدخل الاحتلال، وكذلك الحال بخصوص خرائط الانسحاب، وحرصنا على تقليل عمق المناطق العازلة التي يبقى فيها الاحتلال خلال الـ60 يوماً، وتجنب المناطق الكثيفة السكان لضمان عودة معظم أهلنا إلى أماكنهم".
وأكد أن الاتهامات الأميركية بشأن المساعدات ومزاعم سرقتها باطلة ولا أساس لها، وقد فنّدها أخيراً تقرير نشرته وكالة رويترز، نقلاً عن تحقيق للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أشار إلى أن الخارجية الأميركية اتهمت "حماس" بسرقة المساعدات دون تقديم أدلة مصورة، وأن ما لا يقل عن 44 من أصل 156 واقعة سرقة للمساعدات بغزة كانت بسبب الإجراءات العسكرية الإسرائيلية. وخلص التحقيق إلى أنه لا يوجد أي دليل على أن "حماس" سرقت بشكل منهجي المساعدات الممولة أميركياً لقطاع غزة.
وتابع: "في المقابل، يواصل الاحتلال قصف المواطنين في مناطق توزيع المساعدات، ويغذّي الفوضى والانفلات الأمني، ويمنع تأمين قنوات الإغاثة"، داعياً الإدارة الأميركية إلى التوقّف عن تبرئة الاحتلال، وتوفير الغطاء السياسي والعسكري له لمواصلة حرب الإبادة والتجويع بحقّ أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة، وأن تمارس دوراً حقيقياً في الضغط على حكومة الاحتلال للانخراط الجاد في التوصل لاتفاق يُنهي العدوان، ويحقق صفقة تبادل الأسرى.
ضغط لحسم حرب غزة بشروط الاحتلال
من جانبه، رأى الباحث في الشأن السياسي ساري عرابي أن تصريحات ترامب لا يمكن فصلها عن السياق العام لحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، مشيراً إلى أن هذه التصريحات تُشبه في جوهرها جولات التفاوض، والمبادرات المقترحة، والضغوط على الوسطاء، بل وحتى الحرب ذاتها، إذ تشكّل جميعها أدوات ضمن منظومة واحدة تهدف إلى حسم المعركة لصالح الاحتلال.
وأوضح عرابي لـ"العربي الجديد" أن الاحتلال الإسرائيلي قد يكون معنياً بإنهاء الحرب، لكنه يريد ذلك بشروطه الخاصة، بما في ذلك استرداد الأسرى الإسرائيليين، وفتح هامش أوسع أمام خياراته المستقبلية في قطاع غزة. ولفت إلى أن الولايات المتحدة، ممثّلة بإدارة ترامب، لا تسعى إلى وقف الحرب من منظور إنساني أو سياسي عادل، بل تسعى إلى تكريس التفوق الإسرائيلي، وتثبيت موازين القوى التي تتيح استمرار العدوان بأشكال مختلفة.
وأضاف أن تصريحات ترامب الأخيرة تؤكد غياب أي ضمانات لوقف الحرب، أو رفع الحصار، أو حتى التخفيف من وطأة الإبادة الجماعية بعد تسليم الأسرى، معتبراً أن هذه التصريحات تُستخدم كأداة دعائية لتبرير استمرار الحرب وتحميل حركة حماس مسؤولية فشل المفاوضات، على الرغم من أن الوقائع تثبت أن واشنطن نفسها هي من أطلقت يد الاحتلال للانقلاب على تفاهمات يناير/ كانون الثاني، بغطاء سياسي وعسكري.
وأشار عرابي إلى أن المقترحات التي يروّج لها ويتكوف لا تأتي كبدائل جدّية أو متوازنة، بل تم إعدادها بالتفاهم مع حكومة نتنياهو، وتهدف إلى فرض حلول تخدم مصالح الاحتلال فقط، ولا تُراعي الحقوق الفلسطينية. وأكد أن الولايات المتحدة تسعى من خلال هذه التحركات إلى تبييض صورة الحكومة الإسرائيلية أمام الداخل الإسرائيلي، خصوصاً جمهور اليمين والتيار الاستيطاني. وتابع أن إسرائيل لا تستبعد استخدام أدوات أكثر تصعيداً، مثل الاغتيالات، ضمن مشروعها المعلن لتصفية حركة حماس، مبيناً أن أي قيادي في الحركة، حتى داخل قطر، لم يعد يتمتع بحصانة حقيقية، رغم ما قد تفرضه الجغرافيا السياسية من حساسيات.
تحول مقلق
إلى ذلك، قال الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون إن تصريحات ترامب الأخيرة بشأن الوضع في قطاع غزة تمثل تحولاً مقلقاً في الموقف الأميركي، وتكشف عن انحياز أعمى للاحتلال الإسرائيلي، بل تصل حدّ الانقلاب الصريح على المسار التفاوضي الذي تم بناؤه خلال الأسابيع الماضية عبر جهود إقليمية ودولية كبيرة. وأضاف المدهون لـ"العربي الجديد" أن التوقيت الذي خرجت فيه تصريحات ترامب يثير الكثير من التساؤلات، لا سيما أنها جاءت مباشرة بعد الموقف الإيجابي الذي أبدته حركة حماس تجاه المبادرة المطروحة، حيث أبدت مرونة واضحة، ووافقت على عدد من بنود المبادرة، في سبيل الوصول إلى تهدئة تُنهي العدوان على الشعب الفلسطيني، وتفتح المجال أمام معالجة إنسانية حقيقية للأوضاع الكارثية في غزة.
وأوضح أن تزامن تصريحات ترامب مع مواقف مشابهة من نتنياهو والمبعوث الأميركي ويتكوف، يوحي بأن هناك تنسيقاً مسبقاً، وربما نية مبيتة من قِبل الاحتلال الإسرائيلي لإفشال المبادرة، متوقعاً أن تكون إسرائيل قد أبلغت واشنطن برفضها لبنود الورقة المطروحة، لتتحرك الولايات المتحدة سريعاً وتمنح غطاءً سياسياً لهذا الرفض، عبر تصريحات إعلامية تُلقي اللوم على "حماس". وأكد المدهون أن هذا المسار يحمل في طياته مخاطر كبيرة، أبرزها إفراغ التفاوض من مضمونه، وتحويله إلى وسيلة للابتزاز السياسي، من خلال الضغط على حركة حماس لتقديم مزيد من التنازلات، رغم الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي يمر بها القطاع، محذراً من أن ما يجري هو تقويض صريح لأي حل سياسي عادل ومتوازن.
ورغم المؤشرات السلبية، شدد الكاتب والمحلل السياسي على أن هناك جهوداً عربية تبذلها كل من قطر ومصر للحفاظ على المسار التفاوضي، ومنع انهياره الكامل، مضيفاً أن حركة حماس تدرك خطورة الوضع الإنساني، لكنها متمسكة بموقفها الوطني، وترى أن أي تسوية يجب أن تضمن وقف العدوان، وضمان صفقة تبادل مشرفة تُعيد الأسرى إلى أهلهم. وبخصوص مستقبل المفاوضات، أوضح المدهون أن الطريق لم يُغلق بشكل كامل، لكن المشهد يزداد تعقيداً، وهناك خشية حقيقية من أن تكون هذه التصريحات الأميركية مقدمة عملية لإجهاض المسار التفاوضي.
أخبار ذات صلة.
