"عين العقل"... موسيقى تلعب على البيضة والحجر
عربي
منذ أسبوع
مشاركة

منذ انطلاقها، تميّزت التجربة الموسيقية لفريق "عين العقل" بتوليفة فريدة تمزج بين الحداثة والتقدّم التقني في الموسيقى، وبين ما هو تقليدي، شعبي وبسيط، يقارب شوارع الإسكندرية. وخلال ثلاث مناسبات مختلفة في طابعها الفني، من بينها حفلة إصدار الألبوم الثاني "البيضة والحجر"، تعرّف الجمهور إلى نزعة جديدة ضمن المشهد السكندري: تجربة محلّية قادرة بخصوصيّتها أن تعبر إلى العالمية من دون الخضوع لشروط الاعتراف القاهري. صيغة موسيقية متقدّمة، دقيقة الصنع، يُعزّزها التاريخ الفني الطويل لأحد المؤسّسين، عمرو زيدان، الذي يعزف ويُنتج الموسيقى منذ عام 2006.
تأسّس الفريق في أواخر عام 2021 نتيجة لقاء بين عازف العود، باسم ضياء، وعمرو زيدان، في إقامة فنية في وكالة بهنا للأفلام في الإسكندرية. لم تُنتج الإقامة سوى هذا اللقاء الموسيقي. ضياء يعزف على العود الخشبي والإلكتروني، فيما يتولّى زيدان التأليف والمزج بين الموسيقى الشرقية والتكنو. منذ بدايته، قدّم الفريق صورة بصرية سيكادليك تعبّر عن موسيقاه، فشدّت أنظار الشباب في الإسكندرية كونها تجربة جديدة منبثقة من الواقع المحلي.

في ألبوم "البيضة والحجر"، استلهم الثنائي أسماء التراكات والمزاج الموسيقي من حارات الإسكندرية الشعبيّة، متجاهلا الخطاب الكوزموبوليتاني الشائع عنها، مانحَا الأولوية إلى ما هو شعبي وخرافي. كل تراك يحمل اسماً أو تعبيراً من الموروث الثقافي المحلي، مثل "حية من تحت تبن"، و"تحت السواهي دواهي"، و"البيضة والحجر" المأخوذ من عنوان الفيلم الشهير لأحمد زكي ومعالي زايد، تعبيراً عن يأس مجتمع راسخ في جهله، يعيش خرافاته من دون أن ينتفض عليها أو يتبنّى أيّ منطق عقلاني.

في تراك "الغراب الراقص"، يرقص الغراب (نذير الشؤم) كأنّه يردّ على الاتهامات التي تُكال له من كل صوب. الموسيقى تلتف حوله كما فعل الناس، ويبدأ إيقاع راقص بعد موجة من التشويش السيكادليك، ما يجعل الجمهور يصفق ويشعر بانفراج، كأنّ الحال يتبدل. أما في "حية من تحت تبن"، فيُعاد خلق طقس يشبه الزار، بطبولٍ ودفوف، ولكن بصيغة سيكادليك إلكترونية تبعث على الريبة، كأنّها تُعيد تمثيل الخرافة بصيغة عصرية هشة، تثير التساؤل حول أصلها ومعناها.

في الملصق الترويجي للألبوم، يظهر عمرو زيدان مستلقياً على أريكة، مرتدياً نظّارة رؤية مزيفة، في وضعية استعداد لـ"الفرجة" على المجتمع. أمّا باسم ضياء، فيقف متكئاً على أحد مساند الأريكة، ناظراً إلى المارة، ممثلاً لوقفة "الإمّة" السكندرية، ينظر ويعلّق، وربما يشتم. الأوّل يراقب، والثاني جاهز للرد. كلاهما يقدّم نقداً ساخراً لمجتمع أحيا الخرافة والشعوذة، وزوّدها بمصطلحات أجنبية، ومدّ لها جسوراً مع هواة نظريات المؤامرة حول العالم.

حتى اسم الفريق نفسه، "عين العقل"، لا يخلو من التهكم؛ إذ إنّ أفعال زيدان وضياء الموسيقية العابثة والصاخبة، تصبح "عين العقل" في نظر مجتمع تغمره الهلوسات والضلالات التي أفرزها اللاوعي الجمعي.

في شهر رمضان الماضي، قدّم الفريق عرضاً تجريبياً في مركز الجزويت الثقافي في الإسكندرية، تماشياً مع روح الشهر، ومستلهماً من أشعار جلال الدين الرومي. الحفلة اتّسمت بطابع سيكادليك بصري منوّم، من دون رقص كما هو معتاد، إذ جلس الجمهور على المسرح في حلقات قرفصاء، وسط مؤثرات بصرية تتخللها ارتجالات الفريق، الجالس على ثلاثة كراسٍ حول طاولة كبيرة. الموسيقى هنا تتبنّى قالباً صوفياً كونياً يحتضن جميع الديانات والمذاهب، لكنها تُطعَّم بالسيكادليك – وهو نقيض المألوف – لتوقظ المستمع من حالة الوجد، وتعيده إلى اللحظة. لم تعد موسيقى "عين العقل" في هذا العرض مجرد تكنو راقص، بل باتت تجربة تأملية، قادرة على الانتقال بين النقيضين، الوجد والسكينة، باستخدام آلات شرقية مثل القانون والناي، مع مؤثرات تنويمية تعبّر عن علاقة الإسكندرية الروحية بالبحر والصوفية.

في ألبومه "التشويش طفح"، الذي سبق تأسيس الفريق، يعبّر عمرو زيدان عن قلق اجتماعي، واستبعاد مؤلم من مجتمع غير صحي. بكلمات مثل "قالوا عني مريض، اكمني بعيد، اكمني، زهدت الحاجة..."، يظهر احتراقه من سعي فارغ خلف النجاح. أما في "البيضة والحجر"، فيواجه هذا الواقع بسخرية: "هات ما عندك"، كما فعل قبله موريس لوقا في "بنحيّي البغبغان"، الذي استلهم من المهرجانات. استمد زيدان سيكادليكته من صخب الأفراح الشعبية، من الكلاكسات وزعيق الشارع.
تلك الموسيقى التي تعتمد على تكرار اللحن لضمان رقص الجمهور مهما اختلفت أذواقه، تنبع من لحظة توليد آني، إذ يعزف الأورغ على مزاج معازيم ربما يكونون تحت تأثير المخدرات أو الكحول.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية