حين يفسر المثقفُ القتلَ
عربي
منذ يوم
مشاركة

مرةً أخرى، ينضم كتّاب سوريون، وصحافيون، ومثقفون عتاة في الدفاع عن الحرية ـ سابقاً، فقط سابقاً، أي في زمن الديكتاتور التافه الهارب من البلاد ـ إلى طابور السلالات التي تفسِّر أو تبرِّر القتل. طابورٌ طويل يبدو أنه متجذِّر في بلادنا إلى الحدّ الذي جعلنا نصاب بالعمى من قبل، فلا نراه، أو ندّعي أنه غير موجود، وأنه هامشيّ، ونزعم أننا بشر، وأن الحروب لا تستطيع أن تسرق منا إنسانيتنا، مهما فعل مشعلوها، ومهما دبّروا من المكائد لمبادئنا وأخلاقياتنا.

وإذ بنا نفاجأ مرةً أخرى أن الثقافة تفاهة، عندما يتحرك عصب الطائفة. وأن كتابة الرواية لعبة نتسلّى بها، إلى حين حضور مصالحنا الطائفية. وأن الشعر معدٌّ من أجل الاستقواء به على من سيُصبح هدفاً للإبادة بعد "النصر على القاتل القديم". وأن تشريع القتل، أو الدفاع عن الجريمة، هينٌ وسهلٌ، وقد لا يمسُّ الدستور الأخلاقي الذي نضعه لأنفسنا بأنفسنا.

ألم يقل إميل دوركايم ذات يوم: "في أي لحظة يمكن أن يؤسّس الدستور الأخلاقي للمجتمع شروطَ الوفيات الطوعية"؟ بلى، هكذا تقول روائية سورية: الحقُّ على القتلى، فهم الذين أرغموا الدولة على أن تقتلهم.

كتابة الرواية لعبة نتسلّى بها إلى حين حضور مصالحنا الطائفية

لقد رأينا مثل ذلك في زمن الهارب بشار، حين انبرى شعراء، وروائيون، وخطباء، ونقّاد، وممثلون، ومخرجون، للدفاع عن جرائم القتل ومنطق الإبادة. وها هي الأسطوانة ذاتها تعود بأقلام أخرى. فقط، يسكت قلم قديم، ويحلّ محلَّه قلم جديد، كان في الأمس، الأمس فقط، يذرف الدموع على حاله وعلى البلاد. كأنّ هوية القاتل هي التي تحدد خياراته: اعتراضه أو موافقته على القتل. (ويا للهول هنا، لأننا نتحدث عن روائيين، وشعراء، ومثقفين، وأكاديميين، وصحافيين، يرفعون راية الإنسانية ومبادئ الأخلاق)، فإذا القبول أو الرفض مرهونٌ بنوعية القاتل، لا بكمية القتل، ولا بهويّة المقتولين.

فإذا كان القتل هذه المرة يخدم "دولتنا"، فلا مانع، ولا ضير، ولا ضرر. وعلى المقتولين اللعنة. وبوسع المثقف تحميلهم ذنوب جميع الخطاة في التاريخ، كي يكون قتلهم ممكناً ومسوَّغاً. وفي هذه الحالة، يتغاضى أيضاً ـ بينما يُريح ضميره على وسادة المبادئ المستجدّة ـ عن جميع أشكال الوحشية، والعنف المفرط، والتعدي على المعايير الأخلاقية، والدينية، والإنسانية، التي يرتكبها مسلّحون لا يكادون يعرفون القراءة.

بينما كانت الدولة نفسها، ملعونة قبل بضعة أشهر فقط، بطاقمها القاتل، الذي فرّ وهرب متنكباً جرائمه التاريخية، لأنها تقتل بالذرائع نفسها: أُناساً أبرياء من قبيلة أو طائفة المثقف. وكانت اللعنات تحلّ على القاتل، فالمسألة كلها باتت "براغماتية"، وهي الكلمة المحببة اليوم لجمهورٍ عريضٍ من المثقفين السوريين، الذين تنشدّ أبصارهم نحو "سيّد البراغماتيين في العالم".

القاتل واحد، في أي ناحية كنت. والقتل واحد. ففي اللغة، وفي الحياة، ثمة كلمة اسمها التفاوض، ولها قوة أخلاقية تمنع انفلات العنف والوحشية، كما تمنع كل السلالة التي تتوالد من هاتين المفردتين. إنها دليل الرحمة، أو القوة الإنسانية الحقيقية التي تحترم الوجود البشري بأسره، على اعتبار أن الآخرين مثلنا، ولهم الحق في أن يقولوا، أو يفعلوا، ما يريدون، دون أن يضرّ أحدٌ بأحد.


* روائي من سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية