مهرجان المسرح القومي.. احتفال في الأقاليم وأسئلة عن الأثر
عربي
منذ يوم
مشاركة

ما الذي يعنيه أن يُقام المهرجان القومي للمسرح تحت شعار "المسرح في كل مصر"؟ ربما يعني ذلك أكثر من مجرد توزيع العروض على محافظات مختلفة، أو تنظيم ورشات تدريبية في الأقاليم. قد يكون الأمر محاولة جادة لاختبار فكرة قديمة، وهي أن تُصبح القاهرة أقل مركزية، وأن يتحرر المسرح من احتكاره التقليدي للمسارح الكبرى والمواسم النخبوية، وينفتح على طاقة كامنة في المدن الصغيرة، وعلى جمهور يُشار إليه دوماً بصفته الغائب.

بهذا المعنى، لا تأتي الدورة الثامنة عشرة من المهرجان القومي للمسرح المصري كحدث فني فحسب، بل كتجربة اجتماعية وثقافية تحاول، برئاسة الفنان محمد رياض، أن تعيد رسم خريطة التفاعل المسرحي في مصر.

ومع أن هذه الدورة تواصل سياسة توسيع النطاق الجغرافي للعروض والورش، فإنها في الوقت ذاته تسلط الضوء على أسئلة أكثر تعقيداً: مَن يُنتج المسرح اليوم؟ ولمن؟ وما الذي يعنيه فعلاً أن يكون هناك مسرح قومي في بلد يعاني من فجوات حادة بين العاصمة وبقية المحافظات؟

في المشهد الذي ترسمه هذه الدورة، لا يبدو المسرح مجرد نشاط ثقافي يُروَّج له من أعلى، بل ممارسة حيّة تجري في هامش الخريطة، في محافظات كالإسكندرية وبورسعيد وطنطا وأسيوط. هي المدن التي استُدعيت لتصبح مسارح بديلة للقاهرة، لا لكونها جاهزة، بل لأنها جزء من التحدي. فالمهرجان لا يُقدّم عروضاً فقط، بل يصنع واقعاً افتراضياً مؤقتاً، كأن مصر كلها تملك مسارحها وتاريخها وفرصتها في أن تُروى حكاياتها على الخشبة.

وبينما تُواصِل إدارةُ المهرجان سياستَها الداعية إلى كسرِ المركزية بحمل العروض والورش إلى الأقاليم، تُلقي الدورةُ الراهنة ضوءاً كاشفاً على حيويةِ الحركة المسرحية المصرية، وكذلك على مأزقها المتعلق بجمهورٍ يتقلص وقطاعٍ خاصٍ يكاد يختفي.

يُشارك في المسابقة الرسمية هذا العام 35 عرضاً تمثل الطيفَ الكامل للمسرح المصري: الرسمي، والجامعي، والمستقل، والقطاع الخاص، إضافةً إلى ثلاثة عروضٍ خارج المنافسة، وهو رقم يشي بتنامي الإنتاج على الرغم من التحديات الاقتصادية والفنية المعروفة.

وتُظهِر قائمة العروض الستة للبيت الفني للمسرح، مثل "كارمن" و"يمين في أول شمال"، حضوراً قوياً للقطاع الحكومي، فيما تُقدّم هيئةُ قصور الثقافة ستة عروضٍ من المحافظات، وتُسهم أكاديميةُ الفنون والجامعات بمعالجاتٍ شبابية لافتة.

وللمرة الأولى، تُخصَّص تكريمات رمزية لرائدٍ مسرحي من كل محافظةٍ تستضيف الفعاليات، في خطوةٍ تُقابلها قائمةٌ مركزية للمكرّمين الوطنيين، من بينهم الفنانة سميرة عبد العزيز، والفنانون محيي إسماعيل، وأشرف عبد الباقي، ومحمود حميدة، وأحمد نبيل. هذا التوزيع الأفقي للتكريم يتناغم مع سياسةِ النشر الجغرافي للعروض، حيث تُقدَّم فعاليات في أربع محافظات أخرى إلى جانب القاهرة، وهي: الإسكندرية، وأسيوط، وبورسعيد، وطنطا.

بلغ عدد الورش الفنية والتقنية التي أُنجزت قبل بدء العروض أكثرَ من 94 ورشة، تقدم إليها نحو 14 ألف شاب، بينهم ثمانية آلاف من المحافظات، في مؤشرٍ لافتٍ على تزايد الطلب على التدريب خارج العاصمة. تنوعت الورش بين التمثيل، والإخراج، والتأليف، والسينوغرافيا، والتعبير الحركي، والتذوق الموسيقي، والإلقاء، بإشراف متخصصين مثل المخرج عصام السيد. هذا التأسيس المعرفي ينسجم مع استراتيجية تستهدف بناء قاعدة جماهيرية جديدة من قلب الأقاليم، وفق تصريحٍ لرئيس المهرجان. ويبدو أن الإدارة تُراهن على الورش بوصفها استثماراً طويل الأجل، لا يقل أهميةً عن المسابقة ذاتها.

على الصعيد الفني، تُظهِر العروض الرسمية، بناءً على قوائم لجنة المشاهدة، تنوعاً في الأشكال والأساليب، لكن النقاد المشاركين في جلسة نقاش مفتوحة حول الموسم المسرحي نبهوا إلى ما وصفوه بتشابه الصيغة الفنية وتراجع التجديد، مع انفجارٍ كمي يُقابله جمهور لا يزال محدوداً.

وبحسب الناقدة رشا عبد المنعم، فإن كثيراً من العروض تغترب عن الواقع المصري باعتمادها نصوصاً مترجَمة أو أحداثاً تدور في بيئات غربية، ما يفقدها اتصالاً مباشراً بجمهورها. أما الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف، فقد لفت إلى أن المسرح الجماهيري لا يزال المنصة الأساسية لاكتشاف المواهب عبر قصور الثقافة، مشيراً إلى مشروع نوادي المسرح الذي استقطب أكثرَ من 250 مشروعاً صُفِّيَت إلى 155 عرضاً ممولاً، وتجاوز جمهوره 300 ألف مشاهد سنوياً. لكن هذه النجاحات الجزئية لا تُخفي سؤالاً محورياً عن التناقض بين كثافة الإنتاج وقلة الجمهور.

أبرز ما يُحسب للدورة الحالية تكريس فلسفة اللامركزية عملياً، لا شعاراتياً فقط، فالعروضُ والورش انتقلت إلى مدن أخرى خارج القاهرة، ووُظفت ساحات مفتوحة ومسارح بديلة في المحافظات التي تفتقر إلى بنيةٍ مناسبة.

كذلك يُسجّل للمهرجان توسيع مظلته المؤسسية لتشمل وزارةَ الشباب والرياضة، وصندوق التنمية الثقافية، والجامعات، والقطاعَ الخاص، ما خلق مزيجاً من العروض الغنائية والتجريبية، جنباً إلى جنب مع كلاسيكياتٍ مُعاد تقديمها.

الإضافة الثانية تتعلق برفع سقف التدريب، فعدد الورش (أكثر من 90) ليس قياسياً فحسب، بل إن تنوع مجالاتها، من الصوت والإلقاء والموسيقى إلى الذكاء الاصطناعي في العرض، يُعطي صورةً عن إدراكٍ حقيقي لتحولات الصناعة الفنية، ورغبةٍ في إعداد أجيالٍ تستطيع استخدام التكنولوجيا بكونها جزءاً بنيوياً من ممارستها.

أما الإيجابية الثالثة، فتتمثل باتساع رقعة التكريم لتشمل رموز العمل المسرحي في الأقاليم، وهو ما يعزّز إحساسَ الفنانين في المحافظات بأن لديهم فرصاً للظهور والتقدير.

تكريس فلسفة اللامركزية عملياً، لا شعاراتياً فقط

مقابل هذا الوجه المضيء، لا تزال نقاطُ الضعف نفسها تطلّ في كل دورة؛ فالقطاع الخاص، الذي كان يوماً صانعَ النجوم في حقبة عادل إمام وسمير غانم، غاب عن المشهد تماماً دون دراسةٍ لأسباب تراجعه، بحسب الفنان أشرف عبد الباقي، الذي نبه كذلك في كلمته يوم الافتتاح إلى غياب المسرح المدرسي. أما النتاج الجامعي، فبرغم حيويته، يبقى مساراً موازياً لا بديلاً لمسرحٍ تجاري صلب يمكنه استعادة الجمهور العريض.

هناك أيضاً الهواجس المتعلقة بتشابهِ القوالب الإخراجية، والتعويلِ على نصوصٍ مُقتبَسة تُعرقِل بناء خطابٍ مسرحي محلي قادرٍ على لمس الشارع. أما عزوف الجمهور عن المسرح، فهو بلا شك نتيجة تغييراتٍ اجتماعية أعمق مما يداويها مهرجان واحد.

ويظل نقص البنية التحتية في بعض المحافظات، مثل محافظة المنيا مثلاً، التي لا تملك أيَّ نشاطٍ ثابت، أو الإسكندرية، حيث أُغلقت معظم المسارح، حجرَ عثرةٍ أمام خطة "المسرح في كل مصر". صحيح أن استغلالَ المساحات المفتوحة اقتراح وجيه، إلا أنه يظل حلاً مؤقتاً أمام الحاجة إلى صيانة دور العرض القائمة وبناء أخرى جديدة.

ولعل الأرقام المعلنة عن عدد المتقدمين للورش المسرحية، الذي تخطى الـ14 ألف متقدم، أكثر من نصفهم من الأقاليم، لا تعكس اتساعَ قاعدة الممارسين فحسب، بل أيضاً تعطّشَهم للاعتراف المؤسسي، وهو ما يضع على عاتق وزارة الثقافة تحديَ توفير التمويل والاستمرارية بعد انتهاء المهرجان.

تؤكد الدورة الثامنة عشرة أن المهرجان القومي للمسرح نجح عاماً بعد عام في تقديم بانوراما شبه شاملة لما يُنتَج داخل مصر، لكنه في الوقت نفسه يكشف تناقضاتِ المشهد المسرحي، والمتمثلة بوفرة العروض مع عزوف جماهيري، وورشٍ مسرحية كثيفة لا تجد دائماً متنفساً إنتاجياً لاحقاً، ومركزية تحاول الانفلات، فتواجه عجز البنية الأساسية في الأقاليم، وقطاع خاص غائب يفاقم الاعتمادَ على الدولة.

ورغم هذه المفارقات، تبدو الدورةُ الحالية أكثرَ انسجاماً مع شعارها المُعلن، لنشر المسرح خارج القاهرة، وإتاحة المنابر للشباب، ومحاولة رأبِ الفجوة بين العرض والجمهور.

وإذا كان المهرجان قد قطع شوطاً في اللامركزية، تدريباً وعروضاً وتكريماً، فإن الخطوة التالية ينبغي أن تستهدف إعادة هندسة العلاقة مع الجمهور عبر خطط تسويق جديدة، ودعمِ البنى التحتية، وتشجيعِ القطاع الخاص على العودة بمشروعات مُربحة فنياً واقتصادياً معاً.

وبانتظار ما ستُسفر عنه المنافسة الرسمية، من المؤكد أن المشهد المسرحي المصري، برغم عثراته، يرفض الاستسلام، وأن شغف المشاركين، من الورش والجامعات إلى الفرق المستقلة، يَعِد بجيلٍ يُراهن على الخشبة بديلاً للحضور الافتراضي الطاغي.

ولعل أهم ما تعلّمه هذه الدورة، أن الطريق إلى جمهورٍ أوسع يمر بالتدريب الجاد، والنص المحلي، والتجريب المسنود بمؤسساتٍ تتشارك التمويل والقرار، حتى يتقاطعَ المسرح أخيراً مع نبض الشارع لا مع نخبه فقط.

بهذا المعنى، يبدو المهرجان القومي هذا العام خطوة جادة، وإن كانت غير مكتملة، نحو تحقيق شعار "المسرح في كل مصر"، ودفعةً جديدةً في رحلةٍ تستحق أن تستمر بعزيمةٍ أكبر، ورؤيةٍ أشمل، وتخطيطٍ أطول نَفَساً.

في المحصلة، لا تكمن أهمية الدورة الثامنة عشرة في عدد عروضها أو كثافة ورشها، بل في إشارتها إلى تحوّل أعمق، وقناعة بأن المسرح المصري، رغم تعثّره، لا يزال يحتفظ بشغفٍ دفين للقاء جمهوره.

وما لم تُستكمل هذه المحاولة برؤية بعيدة المدى، تدعم اللامركزية بخطط مستدامة، وتعيد الاعتبار للخيال كقوة اجتماعية وثقافية، فستظل هذه المبادرات محض ومضاتٍ في عتمة مشهدٍ يحتاج إلى ضوءٍ أكبر، وإرادةٍ أطول نَفَساً.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية