محمد هاراوي: "أردتُ أنْ أكون صادقاً مع من أصُوّرهم"
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

 

ينطلق "القرية المجاورة للجنة" (2024) لمحمد هاراوي من صُور إعلامية للحرب، كما لو أنه يتخلّص منها، لينتقل إلى الأساسيّ، المتمثّل بتقطير أجواء ومناخات تسبر انعكاسات حرب الصومال المستدامة على شخصيات تعيش في وضعيات اغتراب. ينتهج الفيلم اقتصاداً سردياً شديداً، ولا يفصح عن المفاتيح الأساسية للحكي، إلّا في الفصل الأخير، لكنّه يقول ـ بطريقة مفارقة، وعبر جماليات التأمّل في الأجواء، والشعرية البصرية القوية التي تكتنفه ـ أضعاف ما يُمكن أن يحمله طرح برهاني لفيلمٍ اعتيادي، عن شرط العيش في بلد كالصومال.

يركّز المخرج وكاتب السيناريو، منذ البداية، على عائلة مُفكّكة وبديلة إلى حدّ ما، بحكم غياب الأم غير المُبرَّر سردياً قبل الفصل الأخير. عائلةٌ تعيش في قرية صومالية نائية، تتكوّن من مَمَرْغراد (أحمد علي فرح)، رجل خمسيني يشتغل في مهن صغيرة، وطفله سيغال (أحمد محمد سَلِبان)، وأخت الأب أراويلو (أناب أحمد إبراهيم)، التي عادت مُكرهةً لتعيش معه في منزله الصغير، بعد خلافها مع زوجها.

هذا أول فيلم صومالي يُصوَّر في البلد بشروط سينمائية. يؤكّد موهبة واعدة لمخرجه هاراوي (المعروف بـ"مو" هاراوي) منذ أفلامه القصيرة، كـ"الحياة في القرن الأفريقي" (2020)، وخاصة "هل سيأتي والدايَ ليزوراني؟" (2022)، الفائز بالجائزة الكبرى في الدورة الـ45 (27 يناير/كانون الثاني ـ 3 فبراير/شباط 2023) لـ"المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران"، أرفع تظاهرة متخصّصة بالفيلم القصير.

التقت "العربي الجديد" هاراوي بمناسبة مشاركته بالدورة الـ21 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، التي شهدت تتويج "القرية المجاورة للجنة" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة برئاسة الإيطالي لوكا غوادانيينو. وكان حوارٌ عن البنية السردية للفيلم، ورؤيته هو للحياة في الصومال تحت الحرب، وكيفية اشتغاله على الجماليات البصرية لتلافي غرائبية البؤس.

 

(*) تفتتح "القرية المجاورة للجنة" بصُوَر إخبارية. تبدو كأنّك أردتَ التخلّص من جمالية التناول الإعلامي منذ البداية. هل كان هذا قصدك؟

بالتأكيد. أردت تذكير الناس بما يرونه عادةً. أنْ أقول إنّها مجرّد دعاية، والآن سنرى الحياة الحقيقية للشخصيات من منظور آخر.

 

(*) تنتقل بعدها إلى تداعيات الحرب على الشخصيات، التي نراها تتحرّك وتتحدّث بطريقة تبدو كأنّها مُتغرّبة بفعل الحرب.

يُظهر الفيلم أنّ الشخصيات كلّها تُدرك التحدّيات الناجمة عن الحرب، وأنّ هناك أموراً لا يُمكن تغييرها، سواء كانت الطائرات بدون طيار، أو أشياء أخرى، كالصيد غير القانوني، أو التخلّص من النفايات السامة المقبلة من أوروبا، والمدفونة في أرض الصومال.

يقول الناس لأنفسهم: "حسناً، لا أستطيع تغيير هذه الأمور، فلأجد طريقي، وأكون مُبدعاً في ظلّها". هم أيضاً يعرفون مشاكل بعضهم البعض، من دون أنْ يحتاجوا إلى قولها. كانت هذه النيّة. ليست نيّة حتى، إنّها فقط حال الناس. لا يجلسون ليردّدوا: "أنا ضحية"، ويكتفون بالبكاء، ولا يفعلون شيئاً. بل يقولون: "حسناً، إنّه الوضع، دعوني أجد طريقةً للتعامل معه".

 


(*) سرد الفيلم اقتصادي للغاية. لا تعطي كلّ المفاتيح من البداية، بل تترك المفتاح الأهم للجزء الأخير منه. هل كانت هذه بنية كتابتك منذ البداية؟ إنّها مجازفة قليلاً.

هل تقصد العلاقة بين الأب والابن؟

 

(*) بالضبط.

نعم. أقصد أنّي وثقت بإحساسي الداخلي في ذلك. كما تعلم، بطريقةٍ ما، لا يهمّ حتى لو لم يفهم المشاهد هذه العلاقة. ليست أهم شيء بنظري. أعتقد أنّنا نتعرّف إلى شخصية الأب: من هو وما هي نياته، من خلال أفعاله. لديه قلب كبير. لكنْ، هذه مشكلته في الوقت نفسه. إنّه يساعد الجميع. إنّه أكثر شخص إنساني يُمكن أنْ تراه. هذه مشكلته في العالم الذي نعيش فيه، حيث تُصبح أكثر عرضةً للخطر، فقط لأنّك فتحت قلبك قليلاً.

كانت هذه النيّة. كان لديّ شعور داخلي أنّ تلك العلاقة، حتى لو توضّحت لاحقاً، سيفهمها الناس. كما لو أنّهم سيحسّون بها على مستوى آخر، لأنّهم يعرفون بالفعل، بحلول ذلك الوقت، من هو الرجل.

 

(*) المُثير للإعجاب في الفيلم عندما تُترجم اللقطات الأشياء بطريقة مجازية. كما عندما نرى السبورة في المدرسة، وعليها خربشات تقول الكثير عن مشكلة التعليم، مثلاً.

نعم. إنّها تُظهر في الواقع عالماً مُعقّداً، ليس فقط التعليم، بل عالم الفيلم برمّته. هذا ما يحدث في عقل الطفل الذي يرسمها دائماً. الأمر يبدو مُعقّداً جداً، ولا يمكنك فكّ شيفرته. كما لو أنّها لغة أخرى تدور في ذهنه. تقول اللقطة ذلك مجازاً، بطرق مختلفة.

 

(*) اشتغلتَ مع مدير التصوير مصطفى الكاشف، الذي تربطنا به علاقة خاصة، لأنه ابن الراحل رضوان الكاشف، المخرج المصري المهمّ. كيف حقّقت تلك الصُوَر معه؟

كان الأمر عفوياً جداً، بمعنى ما. حرفياً، لم نقم بأي "ستوري بورد"، ولم نُحضّر أي شيء. ناقشنا السيناريو، وحدّثته عن نواياي، ولماذا أصنع هذا الفيلم، وأنّي أصنعه لنفسي وللشعب الصومالي، وليس لأي شخص آخر. قلت له: دعنا نرى ما سيحدث بعد ذلك.

كان هذا كلّ شيء. كنا نذهب إلى موقع التصوير، ثم نتحدث عن المشهد هناك، ونقوم بالأشياء التي نريد القيام بها. عملية اشتغال عفوية للغاية. الأهم أنّ نكون أصيلين وصادقين في تلك اللحظة، وألاّ نحاول أنْ نكون رومانسيين، أو، كما تعلم، أنْ نُقلّد أحداً، أو نصنع فيلمَ شخصٍ ما. سنصنع هذا الفيلم بالطريقة التي نريدها.

امتدّ الفيلم على 3 ساعات ونصف الساعة، في البداية، فقمنا بحذف شخصية كاملة منه، رغم أنّ السرد كان يشتغل جيداً بوجودها. لكن، من المستحيل أنْ يخرج الفيلم إلى السينما في تلك الصورة. كان الأمر صعباً عندما بدأنا المونتاج، لذا حذفنا تلك الشخصية، ولم يؤثّر ذلك على الفيلم الذي غدا أكثر تركيزاً على العائلة.

 

(*) الفيلم جميلٌ وغريب، بطريقة ما، في الوقت نفسه. لكنْ، لا مكان فيه لغرائبية دخيلة أبداً. كيف حقّقت ذلك؟

أعتقد أنّ ذلك تأتّى من نياتنا. لم نشأ أنْ نصنع بورنوغرافيا بؤس، أو أنْ نُظهر الفقر بكيفية طقوسية (Fetish). كنّا نعرف نيّتنا، النابعة من الشيء نفسه الذي أخبرتك به: دعونا نصنع هذا الفيلم لأنفسنا. دعونا ننسى أنّ أي شخص آخر سيشاهده. لنكن صادقين في هذه اللحظة مع الناس الذين نُصوّرهم، ومع الأشياء التي تحدث هناك. دعونا نحاول ألاّ نصنع أي "ستوري بورد"، ونفكر بناء عليه في زرع إشارة لفيلم شهير هنا، ولسينما فلان هناك.

أعتقد أنّ الشعور الذي تحدّثتَ عنه تأتّى من هناك، وأيضاً من أنّ عملية التصوير برمّتها اعتمدت على طاقم، 70 بالمائة من أفراده يطأون موقع تصوير فيلم لأول مرة. لم يصنعوا فيلماً من قبل، وليس لديهم أي فكرة عن ذلك. صوّرنا الفيلم في 64 يوماً، موزّعة على ثلاثة أشهر. كانت الفكرة أنْ نقول: "حسناً، لم نتمكّن من إنهاء تصوير هذا المشهد اليوم. لا مشكلة. سننجزه غداً. لدينا الوقت الكافي. فقط دعونا ننجزه بطريقتنا". أعتقد أنّ الأمر كان مزيجاً من كلّ هذه الأشياء مجتمعة.

كانت الفكرة أيضاً عدم جلب أي متعاون من أوروبا، أو أي شيء من هذا القبيل. 70 بالمائة من الطاقم صوماليون، والبقية من مصر وكينيا وأوغندا. لذا فـ"القرية المجاورة للجنة" فيلم أفريقي بطريقة ما، من حيث الكيفية التي صُنع بها، والأشخاص الذين صنعوه. الأمر لا يتعلّق بالقصة فقط، بل بالسيرورة برمّتها.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية