
يواجه قطاع الطاقة في إقليم كردستان العراق أزمة غير مسبوقة بعد تصاعد هجمات الطائرات المسيّرة التي استهدفت منشآت نفطية رئيسية خلال الأسابيع الماضية، ما تسبب في توقف ما يقرب من سبعين بالمئة من إنتاج الإقليم النفطي الحيوي. وتتركز الأضرار في عدة حقول استراتيجية في محافظات أربيل، دهوك وزاخو، التي كانت تنتج مئات آلاف البراميل يومياً، وتشغلها شركات أجنبية بارزة ضمن رابطة "أبيكور"، مثل DNO النرويجية، جينيل إنرجي البريطانية، HKN الأميركية، وغلف كيستون، إلى جانب شركات كندية ومحلية.
وأدت الأضرار إلى توقف جزئي أو كامل للعمليات، ما أدى إلى تراجع الإنتاج من نحو ثلاثمئة ألف برميل يومياً إلى أقل من ثمانين ألفاً، ما أثر سلباً على ميزانية الإقليم التي تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط. ويأتي هذا التراجع في وقت تشهد فيه العلاقة النفطية بين بغداد وأربيل توتراً مستمراً بسبب خلافات حول آليات تصدير النفط وتقاسم الإيرادات، وهو خلاف يمتد لعقد من الزمن منذ أن بدأ الإقليم بتصدير النفط بشكل مستقل.
إلى جانب هذا التدهور الأمني، تفاقمت الأزمة مع إعلان الحكومة التركية عن قرار رسمي ينهي العمل باتفاقية خط أنابيب النفط التركي-العراقي التي تعود لعام 1973، ما يهدد بإغلاق الخط الرئيسي الذي ينقل النفط العراقي والكردي عبر ميناء جيهان التركي اعتباراً من صيف 2026. في ضوء هذه المعطيات، يرى مختصون أن الأزمة تحتاج إلى حلول عاجلة تشمل حواراً سياسياً مكثفاً بين بغداد وأربيل، إلى جانب حماية الاستثمارات الأجنبية في القطاع النفطي، وإعادة تأهيل المنشآت المتضررة، لضمان استمرار تدفق النفط وتفادي انزلاق الإقليم والعراق نحو أزمة اقتصادية حادة.
استهداف وخسائر
مستشار برلمان إقليم كردستان محمود خوشناو أكد أن الهجمات المسيّرة استهدفت بشكل مباشر عدداً من الحقول النفطية الحيوية في الإقليم، من بينها حقل خورمالا في أربيل بطاقة إنتاجية تقارب 100 ألف برميل يومياً، وحقل سرسنك في دهوك الذي ينتج حوالي 30 ألف برميل، إضافة إلى حقلي بيشخابور وطاوكي في زاخو، حيث تبلغ القدرة الإنتاجية لكل منهما حوالي 107 آلاف برميل يومياً، بالإضافة إلى حقل عين سفني بإنتاج نحو 12 ألفاً و500 برميل، وحقل شيخان، شمال غربي أربيل، الذي ينتج حوالي 48 ألف برميل يومياً.
وأوضح خوشناو لـ"العربي الجديد"، أن هذه الحقول تديرها شركات تنتمي لرابطة "أبيكور"، وهي المظلة الجامعة لشركات النفط العاملة في الإقليم، ومن أبرزها شركات DNO النرويجية، جينيل إنرجي البريطانية، إتش كيه إن إنرجي الأميركية، غلف كيستون بتروليوم، هنت أويل، شاماران بتروليوم الكندية، بالإضافة إلى مجموعة شركات محلية. وأضاف أن توقف الإنتاج في هذه الحقول أدى إلى انخفاض إجمالي إنتاج الإقليم من نحو 280 ألف برميل يومياً إلى 81 ألفاً فقط، وهو ما يمثل تراجعاً يزيد على 70%، معتبراً أن ذلك يزيد تعقيد الأزمة الاقتصادية ويعرض الاستقرار المالي للإقليم لمخاطر حقيقية في ظل اعتماد موازنة كردستان بشكل كبير على إيرادات النفط.
وأشار خوشناو إلى أن الخسائر المباشرة التي تكبدتها الشركات الأجنبية خلال عام واحد تجاوزت 11 مليار دولار، مع تعليق استثمارات تقدر بحوالي 400 مليون دولار، معتبراً أن هذه الهجمات جاءت في وقت بالغ الحساسية قبيل التوصل لاتفاق نفطي بين بغداد وأربيل. وأضاف أن الهجمات المسيّرة الأخيرة تحمل رسائل خطيرة، مشيراً إلى أن بغداد هي المتضرر الأكبر قبل الإقليم، وأن هذه العمليات مدفوعة الثمن بهدف خلط الأوراق، وإلصاق التهم، وتشتيت اهتمام الرأي العام عن قضايا أكثر أهمية تعاني منها البلاد.
تهديد مباشر لقطاع الطاقة
من جانبهِ، أفاد الباحث الاقتصادي أحمد صباح بأن ما يشهده إقليم كردستان من تصاعد في الهجمات المسيّرة يمثل تهديداً مباشراً لقطاع النفط والطاقة، الذي يعد شريان الاقتصاد الأول في الإقليم. وأضاف أن الشركات الأجنبية العاملة هناك، مثل DNO النرويجية وGulf Keystone البريطانية وHKN الأميركية، اضطرت إلى تعليق جزء كبير من أنشطتها الاستثمارية حفاظاً على سلامة كوادرها ومنشآتها، مضيفاً أن هذا التعليق أوقف إنتاج أكثر من 200 ألف برميل يومياً.
وأكد صباح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن إقليم كردستان كان يساهم قبل الأزمة بنحو 8% من الإنتاج النفطي العراقي، لكن الآن انخفضت الحصة إلى أقل من 4%، وأن هذا التراجع الحاد سيؤثر ليس فقط على الاقتصاد الكردي، بل على ميزانية العراق ككل. ولفت صباح إلى أن الحكومة المركزية على علم بالجهات المنفذة لهذه الهجمات، لكنها تمارس سياسة الصمت المرحلي في محاولة لكسب الوقت وإعادة ترتيب ملف النفط، خاصةً في ما يتعلق بإخضاع الإقليم لشروط بغداد المتعلقة بتسليم الإيرادات وتوحيد التصدير.
وبيّن أن الاستثمار النفطي أصبح في وضع هشّ، والاقتصاد الكردي يواجه أزمة خانقة، فيما يبقى ملف النفط رهن الصراع السياسي بين بغداد وأربيل، خاصة بعد قرار الدولة التركية إيقاف العمل باتفاقية 1973، الخاصة بنقل النفط عبر أراضيها خلال العام القادم.
تجاوز الأزمة
قال خبير الطاقة محمد أمين إن الأزمة الحالية التي يواجهها قطاع النفط في إقليم كردستان والعراق تتطلب تحركاً عاجلاً بخطوات عملية للحد من الخسائر المتصاعدة وإعادة ضبط مسار القطاع النفطي في المنطقة. وأوضح أمين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المرحلة الحالية لا تحتمل مزيداً من التراخي، داعياً إلى إطلاق خطة طوارئ أمنية لحماية الحقول والمنشآت من الاستهداف المتكرر بالطائرات المسيّرة، وتفعيل منظومات الرصد المبكر وتنسيق الجهود الأمنية بين بغداد وأربيل بشكل فوري.
وأكد على أهمية البدء بعمليات إعادة تأهيل الحقول المتضررة عبر الاستعانة بشركات متخصصة بالصيانة وإدارة المخاطر، مع ضمان بقاء الشركات الأجنبية في السوق عبر تطمينات قانونية وضريبية وتشغيلية تحافظ على استمرار الاستثمار. كما دعا إلى "إيجاد بدائل لخط جيهان التركي من خلال بحث خيارات تصدير جديدة عبر الجنوب أو باتجاه سورية، أو من خلال التفاوض مع دول الجوار لإيجاد ممرات طاقة بديلة، تحسباً لأي تصعيد قانوني أو سياسي قد يؤدي إلى توقف دائم للصادرات عبر تركيا".
