
في حوار معه، قال والد سيف الله مصلط، الشاب الأميركي البالغ 20 عاماً، الذي سقط ضحية إرهاب المستوطنين الإسرائيليين، إنه لم يتلقَّ أيّ اتصال من الإدارة الأميركية، سواء البيت الأبيض أو الكونغرس، ولا حتّى من سلطات ولاية فلوريدا، مسقط رأس ابنه. وأضاف الوالد المكلوم لموقع زيتيو المستقلّ، الذي يديره الصحافي البريطاني مهدي حسن: "لو كان الضحية أميركياً إسرائيلياً، لكان التعاطي مختلفاً تماماً، لكنْ لأنه فلسطيني أميركي، أشعر أن معاييرنا مختلفة، ثمّة عالمان مختلفان تماماً".
ذكّرنا هذا الحادث بردّة الفعل الأميركية لمّا كان مواطن آخر إسرائيلي يحمل الجنسية الأميركية أسيراً لدى المقاومة الفلسطينية في غزّة، وكيف هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتحويل المنطقة كلّها جحيماً إذا لم يُطلَق سراحه، وقد كان جندياً يقاتل في صفوف جيش محتلّ. لكن عندما تعلّق الأمر بمقتل أميركي من أصل فلسطيني، لم يُدلِ الرئيس أو نائبه، جي دي فانس، بأيّ تصريح علني بشأن هذه الجريمة. ليس هذا التواطؤ الرسمي الأميركي جديداً، فقد تكرّر الموقف نفسه في حالات سابقة كان فيها الضحايا أميركيون من أصول فلسطينية، والشاهد الأكبر عندنا الموقف المتخاذل للإدارة الأميركية عندما قتل قنّاص إسرائيلي الصحافية الأميركية، من أصول فلسطينية، شيرين أبو عاقلة.
التواطؤ الرسمي الأميركي تكرّر في حالات سابقة كان فيها الضحايا أميركيون من أصول فلسطينية، كما في الموقف المتخاذل من مقتل الصحافية الأميركية، من أصول فلسطينية، شيرين أبو عاقلة، برصاص قنّاص إسرائيلي
لم يعد الأمر يتعلّق بازدواجية المعايير في التعاطي مع الضحايا الأميركيين من أصول فلسطينية مقارنة بنظرائهم من أصول إسرائيلية، وإنما تجاوزه إلى نوع من التغاضي المتعمّد إلى درجة الاحتقار والعنصرية المقيتة، ليس في أميركا فحسب، وإنما في كلّ عواصم الدول الغربية التي تستنكر وتدين وتهدّد وتتوعّد، عندما يتعلّق الأمر بإسرائيلي يحمل جنسيتها، حتى لو كان مرتزقاً في صفوف جيش الاحتلال، وتصمت (وتغضّ الطرف) عندما يُهان ويسجن ويعذّب ويجوّع ويقتل مواطنوها من أصول فلسطينية يومياً في غزّة، وكلّهم مدنيون، بينهم أطباء ومهندسون وطلّاب جامعات ومواطنون عاديون يذبحون يومياً، وسط صمت (وتواطؤ) حكومات الدول الغربية التي يحملون جنسياتها.
وقع الأسبوع الماضي حدث أكبر، تعلّق الأمر بقصف طائرات الاحتلال "كنيسة العائلة المقدّسة" شرقي مدينة غزّة، ما أدّى إلى استشهاد ثلاثة أشخاص وإصابة تسعة آخرين. بالنسبة إلى من يتابع حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزّة، منذ نحو 22 شهراً، هذا حدث عادي، روتيني، لأن أهالي غزّة يستيقظون، في كلّ يوم، على قصف أحيائهم وتدمير بيوتهم وحرق مخيّماتهم وهدم مستشفياتهم ومحو معالم مدنهم. ووسط هذا الدمار الهائل كلّه يسقط الشهداء كلّ يوم بالعشرات، بل بالمئات، أغلبهم من المُجوَّعين والعطشى والمرضى والمصابين الذين يُعدَمون داخل المستشفيات. يحدث هذا كلّه وسط صمت وتواطؤ العالم.
لكن مع قصف آخر كنيسة ظلّت صامدةً في غزّة، والكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع، سنشهد تحولاً كبيراً في ردّة الفعل الدولية، خاصّة الغربية، فجأة استيقظ ضمير حكومات الغرب وتتالت الإدانات والشجب، والمطالب بفتح التحقيقات ووقف الحرب، وصدرت التصريحات المعبرة عن الغضب والحزن قويةً من الأمم المتحدة، ومن بابا الفاتيكان، وتكرّرت الدعوات إلى احترام أماكن العبادة وضمان سلامة المدنيين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تذكّر فجأةً وجود مسيحيين فلسطينيين يعيشون الجحيم في غزّة. وحمّلت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إسرائيلَ مسؤوليةَ الهجوم على الكنيسة، مستنكرةً مثل هذا "السلوك العسكري غير المقبول"، كما لو كان تدمير باقي مدن القطاع وأحيائه وحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل منذ زهاء عامَين "سلوكاً عسكرياً مقبولاً"، لأنه لم يسبق لرئيسة وزراء إيطاليا (اليمينية) أن استنكرت ما يحدث في غزّة من خراب وتقتيل، وغالباً بسلاح وذخيرة إيطاليَّين. أمّا الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الشريك الفعلي في جرائم حرب الإبادة في غزّة، فقد اعتبر استهداف كنيسة غزّة مجرّد "خطأ،" وأعرب عن "ردّة فعل غير إيجابية" لدى علمه بما وقع.
هذه الضجة المفتعلة، والغيرة المنافقة على أماكن العبادة، والحرص الكاذب على سلامة المدنيين الغزّيين، لم نجد لها أيَّ أثر عندما قصفت إسرائيل المصلّين داخل المساجد وحوّلتهم أشلاءً، ولا حين هدمت أكثر من 1100 مسجد في غزّة وسوّتها بالأرض، منها المسجد العمري الكبير، الذي يُعَدّ من أقدم مساجد غزّة وأعرقها، ويعود بناؤه إلى ما قبل الإسلام، عندما كان كنيسةً بيزنطيةً، وهو بالتالي إرث حضاري بشري، وأثَرٌ إنساني عريق، ومع ذلك دمّر من دون أن يثير ذلك أيّ ردّات فعل دولية.
ما نشهده ليس ازدواجية معايير، بل يتعلّق الأمر بانحدار نحو حروب دينية يحاول متطرّفون صهاينة إذكاءها
وفقاً للقانون الإنساني الدولي، فالاستهداف المتعمّد للمباني الدينية في أثناء النزاع جريمة حرب. لكن، علينا في حرب غزّة، والحروب التي تقودها إسرائيل كلّها في المنطقة، أن نسجّل وجود استثناء يجب إضافته إلى نصوص "القانون الدولي الجديد"، في حالة ما إذا كانت المواقع الدينية المُستهدَفة "إسلاميةً" أو"مسيحيةً" أو"يهوديةً"، فإنّ ردّات الفعل الدولية لن تكون هي نفسها. في مطلع شهر يوليو/ تموز الجاري، أضرم المستوطنون في الضفة الغربية النار في الموقع الأثري التابع لكنيسة القديس جاورجيوس، العائدة إلى الحقبة البيزنطية في القرن الخامس للميلاد، زار السفير الأميركي مايك هاكابي، وهو مسيحي إنجيلي صهيوني من أشدّ مناصري إسرائيل، الموقع لإظهار تضامنه مع سكّان المنطقة المتضرّرة، واستنكار ما وصفه بـ"العمل غير المقبول"، و"الإساءة لمكان من المفترض أن يكون مكان عبادة"، قبل أن يضيف "يجب أن يدفع الناس ثمناً إذا دمّروا ما هو مقدّس ويخصّ الله"، لكنّ المفارقة أن السفير نفسه يصمت عن كلّ الانتهاكات والتدنيس الممنهج للأماكن المقدّسة الإسلامية في الضفة الغربية وفي غزّة، وفي القدس بالقرب من مقرّ سفارته، إذ يدنّس وزراء ونوابٌ إسرائيليون، ومستوطنون محميون من عناصر الشرطة الإسرائيلية، المسجدَ الأقصى، ويعتدون على المصلّين، كلّ أسبوع تقريباً من دون مبالغات. أليس المسجد الأقصى هو ثالث أقدس مكان بالنسبة لمليارَي مسلم، أي ربع سكّان العالم؟ ألا يتعلّق الأمر ببيت من بيوت الله، أو "مكان يخصّ الله"، على حدّ تعبير السفير هاكابي؟
لماذا يريدون إقناعنا أنّ الفلسطيني المسيحي أكثر أهمية من الفلسطيني غير المسيحي؟ وأنّ الجنسية الأميركية درجات حسب دم ودين وأصل الذي يحملها؟ وأنّ الأماكن المقدّسة هي بيوت الله عندما يُرفع فوقها الصليب والشمعدان، وهي مجرّد خراب عندما تكون صوامعَ وقبباً فوقها الهلال الإسلامي؟... ما نشهده ليس ازدواجية معايير، لأن هذه أصبحت إحدى معايير القانون الدولي في نسخته الغربية الجديدة ما بعد حرب أوكرانيا وحرب الإبادة في غزّة، يتعلّق الأمر بانحدار خطير نحو حروب دينية يحاول متطرّفون صهاينة في إسرائيل إذكاءها، يساعدهم الغرب المسيحي بنفاقه وازدواجية معاييره بالنفخ في رمادها. إنهم يقرّبون النار من الحطب.

أخبار ذات صلة.

