"مثل قلب على مدخل بيت" لهنادي زرقه.. لحظة الشعر ولحظة الحقيقة
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

قراءة القصائد، واحدة تلو الأخرى، تردّنا إلى عنوان كتاب الشاعرة السورية هنادي زرقه "مثل قلب على مدخل بيت" (دار أثر، الرياض، 2025)، ما يحتّم علينا أن نقف هنيهة عنده، أن نعود إليه ونبدأ منه، نجعله، كما ورد فيه، بيتاً ومدخلًا. نحن هنا، في النص، في ما يشبه البيت؛ لسنا فيه غرباء، ولا يتصدى هو ليكون مغترباً عنّا. القصيدة الأولى تحمل عنواناً يكاد يكون خاتمة؛ بل نشعر أن "التقدُّم باتجاه الموت" أقرب إلى أن يكون حقيقة النص، إلى أن يكون معناه الداخلي، أو بكلمة: "ما بعده".

البيت الأول "أُطيل النظر إلى وجهي في المرآة" لن يكون الوجه، ولن تكون المرآة، بعيدين عن البيت، وعن العُمق الذي يتمثل فيه: عُمق اللحظة وعُمق المكان. سنتراجع في الزمن، ونتراجع في الشكل. لا ننسى أننا هنا أمام الوجه في المرآة؛ سنرجع هكذا إلى جديلتي الصغيرة اللتين تركتا مكانهما ندبتين. كذلك، استمر الفم يكبر، واستمر الأنف يتضخم. إنه البيت أيضاً؛ الوجه والمرآة لن يكونا شيئاً آخر. إنّه بيت شعري، يتماثل مع اسمه في العروض، لكنّه يبقى في مستهل وجود يراوح بين الطفولة بجدائلها، والوجه الذي يتضخم أمام المرآة في عمر آخر.

البيت، الذي هو أيضاً الشيخوخة، هو في الوقت ذاته الخوف منها، خوف صريح إلى درجة أنه يعمّي على الشعر، إلى درجة ينقل معها الموت إلى مطلع الكلام، الذي لا يبقى منه سوى تلك الأغنية الجاثمة.

قصائد تشيب مثلها في ذلك مثل الشاعرة، بين الطفولة واللحظة الراهنة

حين نتابع القراءة، لن تكون القصيدة التالية مفاجأة، ولن يكون كذلك عنوانها "دمى الطفولة الحزينة". العنوان مصمَّم على قول الشيء ذاته، لدرجة أنه، في إفصاحه عنه، يلجأ إلى العَلَن الصريح. لن تكون دمى الطفولة، إذاً، سوى حزينة بالتأكيد. هذه الدمى، هي الأخرى، تتراجع: بدأت ضاحكة وانتهت عجوزاً. نحن، مرة أخرى، أمام المرآة، والدمى التي جلبتها الأم مرحة، غطّى عليها موت الأب المبكّر. هذه، هي الأخرى، صنو الفم الذي كبر، والأنف الذي لحقه في ذلك. لنقل إننا أمام الأحدوثة ذاتها، مرة ثانية، ونحن تقريباً في الحال نفسه. الدمى هنا في المدخل، وهنا في البيت، وفي اللحظة المتحوّلة ذاتها. يسعنا هنا القول إننا تحت الإلحاح ذاته، الهاجس يبقى نفسه، ويمكننا أن نتحدث، لذلك، عن رسالة واحدة، وربما، إذا جاز القول، موضوع واحد.

لن تكون "قصيدة لا تشيب" إلا استمراراً لذلك، وواحدةً من تداعياته، وبالطبع: الهاجس ذاته، وربما المفردات إياها. تبدأ القصيدة من حيث بدأت سابقاتها، من اللفظة ذاتها، أو على الأقل من فضاء مماثل: "في طفولتي". نحن الآن أيضاً في الطفولة. هذه المرة، لن تكون الدمية ولا المرآة، إنها القصيدة الأولى التي — ولا شك — شابت اليوم. هكذا نصادف الموضوع نفسه بعين أخرى. العبارة أيضاً لا تختلف كثيراً، فهنا الشيخوخة بلفظها ذاته أو بما يشبهه: "نهر العجائز".

القصائد تشيب أيضاً، مثلها في ذلك مثل الشاعرة. بين الطفولة واليوم، الطفولة والشيب والشيخوخة، نحن في اللحظة المتحوّلة ذاتها، في المسار نفسه.

في قصائد أخرى، لا تزال الطفولة حاضرة، وغالباً بلفظها المباشر، وقد تعود معها ألفاظ أخرى: "المرآة" على سبيل المثال: "أين أنا؟ / أنظر في المرآة / ولا أرى أحداً". تعود أيضاً الجدائل: "يقولون إن النجوم تفرّ من جديلتي الطفلة وهي تركض". لكننا، أيضاً، وبالدرجة ذاتها، أمام قصيدة فريدة: "أوراق مبدّدة". هنا، نجد أنفسنا حيال استثناء حقيقي. هنا، نجد الشاعرة قد حققت سبقاً فعلياً، يبدو له أحدوثته الخاصة. فرّقت الشاعرة ما تبقى من عمرها على آخرين: "مرّةً أهديتُ أمي بعضاً من سنيني، وكان ذلك خطأً فادحاً/ لم تعرف كيف تعيش هذه السنوات/ بقلب شابة متمردة أو بحكمة عجوز/ ارتبكت أمي وأصيبت بالزهايمر".

ستبقى الطفولة، مع ذلك، في ترداد مستمر. تبقى القصائد تسجل اللحظة ذاتها المحدقة في العجز الفظيع. ستبقى القصائد على شكل أحدوثات، أحدوثة تلو الأخرى، بحيث يتراءى لنا أنها تتتالى كأنها في نص واحد. بل يتراءى لنا، ونحن نستعيد المرات الأولى في حياة الشاعرة، ونحن نعثر في كل قصيدة على واقعة مضمَرة، على ظلال حدث، على هامش حكاية، وعلى خبر مستتر، أن القصائد تتواصل فيما يشبه السيرة. يتراءى لنا أن الشاعرة تتكلم، ليس فقط بوصفها شاعرة، بل امرأة، شخصاً حقيقياً.


* شاعر وروائي من لبنان

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية